الفصل الثاني عشر

صفات الله

 

في هذا الفصل سندرس صفات الله، وهي أن الله روح (سؤال 8-13) غير محدود (س 14-20) سرمدي أزلي أبدي (21-24) غير متغير (25-28) عالم بكل شيء (29-38) ذو مشيئة (39-42) قادر (43-48) قدوس (س 49) عادل (50-59) صالح (60-70) حق (71-73) ذو سلطان (74-77).

1 - من هو الله؟

* لا يقدر مخلوق أن يعرِّف الله كما هو، وإنما يمكننا أن نعرِّفه بما يميزه عن كل من سواه، كقولنا الله روح غير محدود وكامل، منه وبه وله كل الأشياء. الله روحٌ غير محدود في ذاته ومن ذاته، في وجوده ومجده وغبطته وكماله، كافٍ للكل، سرمدي (دائم) غير متغير وغير مُدرَك، حاضر في كل مكان، قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، حكيم قدوس عادل رحيم رؤوف بطيء الغضب، وكثير الإحسان والوفاء. وهو غير متغير في وجوده وحكمته وقدرته وقداسته وعدله وجودته وحقه.

2- كيف يتكلم الكتاب في الله؟

* يتكلم كثيراً في الله باستعمال كنايات وتشبيهات واستعارات مأخوذة من لغة البشر في ما يخص طبيعة الإنسان وأعماله كقوله: «وجه الله» و«عين الله» كما ينسب إلى الله الندامة والحزن والغيرة وما أشبهها.

3- بأي معنى ننسب الوجود إلى الله؟

* عندما نقول إن الله أكمل الكائنات ننسب إليه الوجود الحقيقي تمييزاً عن الوهمي، وعن اعتباره بمنزلة قوة مجردة عن الذات. ونحن ندرك وجودنا بالمشاعر، التي نتبادلها مع الآخرين ولا تراها عيوننا، ولكننا نحس بوجودها، ويمكننا أن نعبِّر عنها أو نخفيها، وهذا يعني علم النفس بذاتها وأفعالها، فننسب إلى ذواتنا أفكاراً وأشواقاً ومقاصد، وهذا يُلزمنا أن نتأكد من وجود جوهر تصدر عنه هذه الأفكار والأشواق، فيعلم الإنسان وجوده لأنه يفتكر ويحس لامتناع الإدراك بلا مُدرِك، كامتناع الحركة بدون متحرِّك. والله واجب الوجود، وهو سرمدي غير متغير، مركز فضائل الرحمة، ومصدر الأفعال الإلهية. غير أن بسط الكلام في هذا الجوهر متعذر لعدم إدراكنا الجوهر مجرداً عن صفاته. وفي شرح الجوهر الإلهي نصل إلى أقصى ما ندركه بقولنا إنه روح، فإذاً هو منزَّه عن كل ما تتصف به المادة. وهو في ذاته وفي صفاته غير محدود، سرمدي غير متغير. ووجود جوهر إلهي غير محدود سرمدي غير متغير يستلزم أنه كان قبل وجود العالم، وأن لجوهر اللاهوت وجوداً غير متعلق بوجود المخلوقات.

4- ماذا يُراد بقولنا صفات الله؟

* للجوهر الإلهي غير المحدود السرمدي غير المتغير صفات خاصة به مُعلَنة في الطبيعة والكتاب المقدس. ومعرفته بدون تلك الصفات والفضائل الإلهية مستحيل، لأنها ضرورية لطبيعة اللاهوت، فبدونها لا يكون «الله». وهذه الصفات لا يمكن  انفصالها عن جوهر اللاهوت، وهي ظاهرة في الكتاب المقدس وفي أعمال الله وعنايته، خاصة في عمل الفداء. فإذا قلنا «معرفة الله» نعني أن جوهر اللاهوت عارف بكل أمرٍ، وإذا قلنا «محبة الله» نعني أن جوهر اللاهوت محب. فصفات الله هي أزلية سرمدية غير متغيرة كالله ذاته.

5- ما هي المحاذير في بيان العلاقة بين صفات الله وجوهره؟

* يجب أن نحذر من إظهار العلاقة بين صفات الله وجوهره وبين علاقة صفاته بعضها ببعض من خطأين: هما التعبير عن الله كأنه مركب من أجزاء مختلفة، وجَعْل كل الصفات صفة واحدة.

6- كيف نعرف صفات اللاهوت، وكيف تُقسَّم صفاته؟

* قسم البعض صفات الله إلى ثلاثة أقسام ترجع إلى الطريق التي حصـلوا بها على تلك المعرفة:

(1) بأن نسبوا إليه كل فضيلة ظاهرة في أعماله، لأنه علة العلل.

(2) واعتقدوا أنه لا يدركه شيء من خلائقه بسبب نقصها وضعفها.

(3) ونسبوا إليه كل الفضائل المختصة بكائنٍ في غاية الكمال. وقسم بعضهم صفات الله قسمين، وعبَّروا عنهما بالصفات الإيجابية، والسلبية. فالإيجابية ما نُسب إليه من الفضائل، كالقوة والمعرفة والقداسة والعدل والصلاح والحق. والسلبية ما بُنيت على نفي ما لا يليق بشأن الله، كنفي أنه مركب من أجزاء، وأنه حادث أو متحيِّز (أي محدود في الزمان والمكان). وذلك بمعنى أنه جوهر بسيط أزلي سرمدي (غير محدود في الزمان) ومالئ الكون (غير محدود في المكان).

وقسم غيرهم صفات الله باعتبار نوعها: إلى ذاتية وأخلاقية. فمن الصفات الذاتية أزليته وعلمه ومشيئته وقوته وعدم محدوديته، ومن الصفات الأخلاقية العدل والرحمة والقداسة والحق. وأما هذا التمييز (وإن كان صحيحاً في ذاته) فهو غير واضح باستعمال كلمتي «ذاتية وأخلاقية» لأن صفاته الأخلاقية هي ذاتية أيضاً. وقسم غيرهم صفات الله إلى مشتركة وغير مشتركة. فالمشتركة هي ما وُجد مثلها في الطبيعة البشرية (وإن كانت محدودة فيها) مثل القوة والمعرفة والمشيئة والحق والصلاح. وغير المشتركة هي ما لا يوجد مثلها في البشر مطلقاً، كأزليته وعدم محدوديته وعدم تغيّره.

وقسمها غيرهم لحقيقيَّة، وهي ما اختصَّت بالجوهر الإلهي بلا تعلُّق بما هو خارجٌ عنه، ونسبية وهي ما تعلقت بما خرج عن الجوهر الإلهي. فالحقيقة تشتمل على ما يختص بروحانيته، كحياته وذاتيته، وعلى ما يتعلق بعدم محدوديته كوجوده بلا علة، وكوحدانيته وعدم تغيُّره، وعلى ما يتعلق بكماله المطلق كحقه ومحبته وقداسته. والنسبية تشتمل على ما يتعلق بالزمان والمكان، كسرمديته (أزليته وأبديته) وعدم تحيزه بمكان أو زمان، وعلى ما يتعلق بالخلق كالوجود في كل مكان والعلم بكل شيء، وعلى ما يتعلق بعلاقته بالأخلاقيات وبمعاملته الخلائق العاقلة كحقه وأمانته ورحمته وصلاحه وعدله وقداسته بالنظر لذلك التعلُّق.

7- ما هو التقسيم الذي اخترناه في هذا الكتاب؟

* اخترنا أن نتبع التقسيم الذي يتضمن:

أولاً- الله روح

ثانياً- إنه غير محدود، سرمدي، غير متغير:

(1) في وجوده. (2) في حكمته أو علمه. (3) في قدرته وقداسته وعدله وصلاحه وحقه. فكل هذه الصفات الإلهية يجمعها اسم الجلالة العظيم.

الله روح

8- بأي معنى استعمل العبرانيون واليونانيون كلمة «روح» وما هو أصل معناها عندهم؟

* من المبادئ الأصلية في تفسير الكتب، مقدسة كانت أو غير مقدسة، نسبة المعنى البسيط المفهوم في عصر مؤلفيها إلى ما فيها من الكلمات. فلنعرف معنى قول المسيح «إن الله روح» يجب أن نعرف معنى كلمة روح عند العبرانيين واليونانيين، وهي أصلاً الريح الهابَّة، خاصة نسمة الحياة، ثم قوة غير منظورة، ثم نفس الإنسان. ويستلزم القول «إن الله روح» أن كل ما هو جوهري للروح مما نعرفه بالشعور يجوز نسبته إلى الله.

9- ما هي القضايا التي يعلمنا إياها الشعور من جهة أرواحنا أي أنفسنا؟

* نتعلم عن الشعور من حقيقة أنفسنا وقواها ما يأتي:

(1) إن النفس جوهر ذو وجود حقيقي وثبوت وقدرة. وإدراك النفس وميولها أدلة على وجود جوهر يفتكر ويريد. والقول بإمكان حدوث أفعال كهذه بلا أصـل يُحدثها كالقول بإمكان حركة بلا متحرك وهو خطأ.

(2) يشهد الشعور بأن للنفس وجوداً مستقلاً متميزاً عن سائر الموجودات.

(3) يشهد الشعور أيضاً أن للنفس قوى مثل قوة التأمل والحس والمشيئة، فكما نتيقن أننا نفتكر ونحس ونشاء، وأن لنا قوى كهذه، نتيقن أيضاً أن هذه القوى هي صفات جوهرية لكل روح.

(4) يحقق الشعور لنا بساطة تكوين النفس، فهي ليست مركبة من أجزاء مختلفة، بل هي جوهر بسيط لا يتجزأ.

(5) يشهد الشعور أن النفس ذات، لأن الشيء الذي يفتكر ويشعر ويقصد هو ذات.

(6) يشهد أيضاً بنسبة النفس للشريعة الأخلاقية.

(7) يشهد بأن للروح قوة الشعور بذاتها.

10- ماذا يتبين من كل ما تقدم؟

* يتضمن القول إن «الله روح» معنى مفيداً لأنه يعلمنا:

(1) سلبياً: أن الله ليس مادة، ولا يجوز أن يُنسب إليه شيء من صفات المادة كالتحيُّز والتجزئة والتركيب والثقل والهيئة. وكذلك استحالة رؤية الله أو لمسه أو معرفته بإحدى الحواس الجسدية. وأنه لا يقع تحت الشروط المختصة بوجود المواد. وأنه لا يجوز أن ننسب إليه أعضاء جسدية أو شهوات. فإذا نسبها إليه الوحي فإنما ينسبها إليه لتقريب معنىً معيَّن للبشر.

(2) إيجابياً: أن الله كائن عاقل أخلاقي مختار مريد، أي ذو مشيئة، وأن له كل الصفات الذاتية.

11- ماذا نتعلم من روحانية الله؟

* (1) إن الله ذات، يشعر بوجوده، وله عقل ومشيئة.

(2) إنه جوهر بسيط غير مركب من أجزاء مختلفة، ولا يقبل التقسيم، ولا يُضاف إليه شيء، لأن غير المحدود يستحيل أن يُزاد عليه، وكذلك لا ينقص منه لأن واجب الكمال لا ينقصه شيء.

(3) إنه كائن أخلاقي، لأن من شأن كل كائن ذي عقل ومشيئة أن يكون تحت قانون الأخلاق، وهو قانون لنفسه في كل ما يختص بالشريعة الأخلاقية.

12- لماذا لا يجوز القول إن الله مثل البشر، مؤلَّف من الروح والمادة معاً؟

* لأنه لو كان هذا صحيحاً يكون الله من الكائنات المركبة. والمركب لا يكون أزلياً ولا غير متغير بل محدوداً (لاستحالة وجود المادة في كل مكان في وقت واحد) ومُدرَكاً بالحواس. والحق أنه لا يقدر أحد أن يرى جوهر الله ولا يلمسه ولا يسمعه بالحواس.

13- ما هي الأدلة على روحانية الله؟

* (1) من الكتاب المقدس الذي ينسب إلى الله صفات الروح المذكورة آنفاً، وعلى ذلك بُني تقديم العبادة والصلاة والدعاء إليه والثقة به بأنه الحافظ والمنعم والفادي. فنرى في الكتاب دائماً ما يدل على أن الله ذات لأنه تكلم مع آدم ونوح، وعقد عهداً مع إبراهيم، وخاطب موسى كما يخاطب الإنسان صاحبه. وفي تعبيره عن ذاته استعمل الضمائر، فقال «أنا الرب». وعلمنا المسيح في الصلاة الربانية أن نستعمل ألفاظاً تدل على وجود صفات الروح في الله. وفي أماكن مختلفة في الكتاب سُمي جوهر اللاهوت روحاً (يو 4: 24). وعلمنا الكتاب أن جوهر اللاهوت فوق إدراك الحواس الجسدية (كو 1: 15 و1تي 1: 17 وعب 11: 27). ومن العبارات التي تدل على روحانيته ما جاء في تث 4: 15-18 ومز 139: 7 ويو 4: 24 و2كو 3: 17).

(2) كل ما نعرفه من شأن الله، لأن طبيعته وصفاته المعلنة لنا تستلزم روحانيته من حيث أنه خالق العالم، عاقل مريد، وغير ذلك مما لا يمكن التسليم به إلا بناءً على أنه روح. ومن ذلك أيضاً كماله الذي يوجب أنه روح، لأنه لو كان مادة لكان غير كامل. وهكذا يقال في عدم محدوديته وتصرفاته وأعماله. وليس في الخليقة ما يدل على أنه مادة، على أن فيه كثيراً مما يدل على أنه روح.

الله غير محدود

 14- ما معنى قولنا «الله غير محدود»؟

* معناه أنه غير محدود في ذاته وفضائله. وعدم محدوديته في ذاته يدل على وجوده في كل مكان في وقت واحد دائماً، ليس لأن روحه صار أرواحاً عديدة لأنه دائماً واحد، ولا لأن روحه متسع أو متمدد في كل مكان كالهواء الممتد على وجه كل الأرض، لأن روح الله ليس مركباً أو مؤلفاً من أجزاء يمكن امتدادها. بل المعنى أن كل اللاهوت في جوهره الواحد غير قابل للانقسام، حاضر في كل مكان في كل دقيقة منذ الأزل وإلى الأبد. وإذا اعترض أن ذلك فوق العقل البشري، قلنا: نعم، وسببه أن العقل البشري المحدود عاجز عن إدراك الله غير المحدود. أما عدم محدودية الله في فضائله فيدل على أن فضائله كاملة لا يعتريها النقص أبداً.

15- ما هو اعتراض البعض على عدم محدودية الله، وما هو الرد عليهم؟

* قالوا إن الجسم غير المحدود ينبغي أن يعم كل ما سواه من الأجسام، وإن المكان غير المحدود يجب أن يعم كل الأماكن، وإن الزمان غير المحدود ينبغي أن يتضمن كل الأزمنة. وهكذا الكائن غير المحدود ينبغي أن يعم ويتضمن في نفسه كل الكائنات، سواء وُجدت أم كانت مما يحتمل وجوده. ولذلك أنكروا عدم محدودية الله.

فنجيب: إن الروح غير المحدود لا يلزم أن يعم كل الموجودات، لأن المادة لا تمنع ولا تحدِّد وجود الروح. ومن خواص الروح غير المحدود أنه لا يمنع وجود أرواح أخرى ولا وجود المواد، كما أن الصلاح غير المحدود لا يمنع وجود صلاح سواه، وكذلك القوة غير المحدودة. بل يمكن وجود روح غير محدود قي فضائله وفي ذاته مع وجود أرواح أخرى عديدة سواه، كما يمكن لعدة أشخاص أن يفتكروا أو يتأملوا أو يقصدوا أو يشعروا في مكان واحد في زمان واحد. ولابد من وجود الله معهم روحياً، ولذلك نقول إن وجود الله في مكان لا يمنع وجود كائنات أخرى روحية في ذلك المكان، لأن ما يصدق على الأصنام في هذا الشأن لا يصدق على الأرواح، لأن صفة الروح غير صفة المادة، بدليل أن لجئوناً من الشياطين سكنوا في إنسان واحد في وقت واحد. ويمتنع أن يُقال في شأن الروح غير المحدود إنه في مكان بمعنى أنه كالمتحيز بالنسبة إلى الحيز، فهو رب المكان ومنزَّه ومستقل عنه، ولا علاقة له به، لأنه قبل أن خلق المتحيزات لم يكن من داعٍ لوجود ما نسميه حيزأ أو مكاناً أو فضاءً. والخلاصة إن المكان أمر اعتباري، وإن الله في كل مكان بلا حصر ولا إحاطة.

16- كيف تُقسم عدم محدودية الله باعتبار المكان عند اللاهوتيين؟

* تُقسم إلى وجوده في كل ما نسميه مكاناً، ووجوده في كل خلائقه. فالأول يشير إلى علاقته بالمكان المطلق غير المحدود. والثاني يشير لعلاقته بخلائقه العاقلة. فالوجود في كل مكان ينسب إليه بالنظر لطبيعته الإلهية، والوجود مع كل خلائقه يُنسب إليه باعتبار علاقته بالمخلوقات العاقلة، لأنه موجود مع كل خلائقه في كل زمان ومكان بجوهره التام لا بمجرد صفاته فقط كعلمه وقوته، وإلا كان جوهره محدوداً. فتعليم البعض أن الله موجود بجوهره في السماء فقط، وفي بقية الأماكن بمجرد صفاته يناقض كمال اللاهوت والتعليم الإلهي.

17- ما معنى حضور الله الخاص وحضوره العام، أي أنه في كل مكان في وقتٍ واحد، وفي كل الأوقات؟

* يراد بحضور الله الخاص حضوره جوهراً وعلماً، إما بإظهار ذاته إظهاراً خاصاً لأحد خلائقه العاقلة، أو بإجراء قوته في أعمال خاصة. والمقصود بحضوره العام (أي أنه في كل مكان في وقتٍ واحد وفي كل الأوقات) هو أن الجوهر الإلهي موجود دائماً أبداً في كل ما نسميه مكاناً. أما من جهة حضوره باعتبار إظهار ذاته إظهاراً خاصاً، أو إجراء قوته بعمل خاص، فذلك يختلف زماناً ومكاناً، لأنه يُظهِر قوة عجيبة في زمانٍ ومكانٍ لا يُظهرها في غيرهما. وهو بهذا المعنى يحضر في كنيسته دون العالم، ويحضر في مكان معلوم لعقاب الشياطين والأشرار بأسلوب يختلف عن حضوره في السماء حيث يُظهر محبته ومجده. فإن قيل إن الكتاب المقدس يتكلم عن الله كأنه حاضر في أماكن دون غيرها مثل الهيكل، أو قلب المؤمن، قلنا إن هذا لا يناقض وجوده في كل مكان دائماً باعتبار جوهره، لأن الكتاب يقصد حضوره الخاص في أماكن مختلفة ليُجري قوته وعمله ومجده لا بمجرد جوهره.

18- كيف يختلف حضور الله في كل مكان عن حضور المواد والأرواح؟

* حضور المواد يعني أنها تشمل مقداراً محدوداً من الفراغ، وحضور الأرواح المخلوقة يعني أنها توجد في وقت مفروض في محل معلوم ولا تكون في غيره ولا تشغله، كالمادة. وحضور الله في كل مكان يعني حضوره العام في الكون حتى لا يوجد مكان لا يكون فيه في كل زمان بجوهره غير المتجزئ. ولا نعني بذلك أن يمتد أو يتسع ليملأ كل مكان، بل أنه يملأ كل مكان بدون تغيير في جوهره، لأن قبول الامتداد يلزم عنه قبول التجزيء، والقول إن جزءاً من الله في مكان وجزءاً آخر في مكان آخر باطلٌ لا يصح في الله الذي يملأ الكون بوجوده.

19- ما هي الأدلة التي تثبت أن الله موجود في كل مكان؟

* الدليل العظيم لهذا هو عبارات الكتاب المقدس التي تبين وجوده في كل مكان، فهو «الذي يملأ الكل في الكل» (أف1: 23). والله يسأل «ألعلي إلهٌ من قريب، يقول الرب، ولست إلهاً من بعيد؟ إذا اختبأ إنسان في أماكن مستترة، أفما أراه أنا يقول الرب؟ أَمَا أملأ أنا السماوات والأرض يقول الرب!» (إر 23: 23، 24). ويقول المرنم «أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدتُ إلى السماوات فأنت هناك، وإن فرشتُ في الهاوية فها أنت. إن أخذتُ جناحي الصبح وسكنتُ في أقاصي البحر فهناك أيضاً تهديني» (مز 139: 8-12 انظر 1مل 8: 27 وإش 66: 1).

وما يشهد به الكتاب المقدس من جهة وجود الله في كل مكان يصـدقه العقل البشري أيضاً، وهو نتيجة طبيعية لكمال صفات الله.

20- ما هي خلاصة تعليم الكتاب في الله وعلاقته بالمخلوقات؟

* خلاصة تعليمه أن الله روح غير منظور، ساكن في نور لا يقدر أحد أن يدنو منه، كلي الجلال والمجد، خالق كل الأشياء وحافظها ومعتنٍ بها. وبحضوره في كل مكان يحيي وينظم ويؤثر في نمو أصغر النبات كما في قيادة نجوم السماء في دورانها، داعياً كلها بأسماء. وفعله ظاهر أيضاً في نفس الإنسان إذ يهبها عقلاً ويعمل فيها لتريد وتعمل، لأن قلب الإنسان في يديه كجداول مياه حيثما شاء يُميله (أم21: 1). وهو يرتب الأمور ويدبرها بعنايته لإتمام مقاصده الحكيمة، وهو يحيط بنا دائماً ونحن محفوظون به.

 

الله سرمدي (أزلي أبدي)

21- ما هو الزمان، وما هي علاقته بالأزلية والأبدية؟

* الزمان هو الدوام الذي نقيسه بتوالي الحوادث. والحادثة المشهورة المعينة لذلك هي دوران الأرض اليومي. ويُقسم الزمان باعتبار نظرنا إليه كماضٍ وحاضر ومستقبل. وهو أمرٌ اعتباري أو نسبي، أي عبارة عن النسبة بين الحوادث المتصلة المتوالية باعتبار تواليها. وهو مختص بالمخلوق دون الخالق، ونسبته إلى الأزلية والأبدية هي كنسبة شيء محدود لشيء غير محدود. فالزمان جزء من المدة غير المحدودة، محدود ببدايته وبنهايته، ويتميز عن الأزلية والأبدية بتتابع الحوادث فيه، ونحن نميز مروره من ذلك التتابع. على أن حياة الله لا علاقة لها بالزمان، فمن خواص الزمان التوالي والله منزه عنه. إلا أنه يتنازل لتمييز التتابع الزمني في ما يتعلق بحياة المخلوقات.

22- ما هو المقصود بسرمدية الله؟

* المقصود بها أن الله دائم غير محدود بزمان، كما هو غير محدود بمكان. ولا يُقاس دوامه بتوالي الحوادث، لأنه سرمدي، ليس له بداية ولا نهاية. وهو لا ينظر للزمان إلا بالنسبة لخلائقه. وهو منزه عن الزمان تنزُّهه عن المكان. وهو في كل زمان كما هو في كل مكان، ولا فرق عنده بين الماضي والحاضر والمستقبل، فكل الأزمنة بالنسبة إليه كالحاضر بالنسبة لنا. ولكنه يعلم الزمان كأمر مختص بالخليقة المحدودة التي لا بد فيها من توالي الحوادث.

23- ما هي نصوص الكتاب المقدس عن سرمدية الله؟

* منها قول المرنم «مِن قَبل أن تُولد الجبالُ أو أبدأتَ الأرض والمسكونة، منذ الأزل إلى الأبد أنت الله.. لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمسٍ بعد ما عبر، وكهزيعٍ من الليل» (مز 90: 2، 4). وقوله «من قِدَمٍ أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى، وكلها كثوب تبلى. كرداءٍ تغيرهن فتتغير. وأنت هو، وسنوك لن تنتهي» (مز102: 25-27). وقد سُمي الله في الكتاب المقدس «الإله الأزلي السرمدي، الذي له وحده عدم الموت» (إش 57: 15 و44: 6 و2بط 3: 8 وعب 13: 8 ورؤ 1: 4).

فنرى من هذه العبارات وأمثالها أن الله بدون بداية ولا نهاية، كائن الآن وكان منذ الأزل ويكون إلى الأبد. والماضي والحاضر والمستقبل دائماً أمامه. ويتفق العقل والكتاب المقدس في ذلك، لأن العقل يحكم بوجوب علة العلل، ومتى وصل إليه التزم بالتسليم أنه واجب الوجود، وأن العلة التي ليس لها علة ينبغي أن تكون أزلية، لأن العلة الأصلية من الوجه الواحد ليست معلولة من علة غيرها، ومن الوجه الآخر غير قابلة للملاشاة، لأن ما ليس له بداية ليس له نهاية.

24- كيف تبرهن أن الماضي والمستقبل هما حاضر عند الله؟

* يصعب على العقل البشري أن يدرك كيف أن الماضي والحاضر والمستقبل أمام الله كوقت واحد. فإن كان الكلام في ذلك من جهة الحوادث كان المعنى أن أوائلها وأواخرها وأسبابها ونتائجها حاضرة أمامه معاً. فكما أن الإنسان الذي ينظر من طائرة يرى قافلة كبيرة من أولها لآخرها في لحظة واحدة، مع أن غيره وهو يسير على الأرض لا يرى إلا ما يمر عليه منها، ويحسب بعضها قد مضى عنه وبعضها صار أمامه، وبعضها سوف يمر عليه.. هكذا يرى الله كل شيء من فوق، فيرى سلسلة الحوادث الزمنية جميعها حاضرة أمامه معاً. وما يراه البشر في كل أيام حياتهم يراه الله في سمو علمه بلا زمان. فإذا سأل سائل: هل تتوالى أفكار الله؟ أجبنا: وإن ظهرت لنا نتائج أفكار الله متتابعة تتابعاً زمنياً، إلا أننا لا ننسب إليها ذلك. لكن يجوز أن نقول إن الله عالم بالحوادث مع تواليها بعضها ببعض (مز 90: 4 و2بط 3: 8).

 

الله غير متغيِّر

25- ما معنى أن الله لا يتغير؟

* يقترن عدم تغير الله بأنه غير محدود وأنه سرمدي، حتى أن نفس الكلام الذي يستعمله الكتاب المقدس لتثبيت عدم محدوديته وتثبيت سرمديته يبرهن أيضاً عدم تغيُّره. والمقصود بعدم تغير الله أنه منزه عن كل تغيير وكل إمكان تغيير، لأنه غير محدود ومستقل وواجب الوجود، ولا شيء خارج عنه يقدر أن يؤثر فيه. كذلك لا شيء داخله يميل إلى التغير. وهو غير قابل للتغيير في جوهره وفي صفاته، فلا يزيد ولا ينقص، ولا يكون علمه في وقت ما أكثر أو أقل مما هو في وقت آخر، ولا يكون أكثر قوة أو حكمة أو قداسة أو عدلاً أو رحمة، ولا أقل مما هو. وكذلك هو غير متغير في مقاصده لأن حكمته غير محدودة، فهو لا يخطئ في آرائه السابقة العلم حتى يحتاج أن يصححها بعد ذلك (يع 1: 17). وبما أن قوته غير محدودة لا يمكن أن يمنعه مانع عن إتمام مقاصده.

26- ما هي الأدلة على عدم تغير الله؟

* عندنا أدلة كتابية وأدلة عقلية، فالكتابية تقول «ليس عنده تغيير ولا ظل دوران» (يع 1: 17). وقوله «ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم. هل يقول لا ويفعل، أو يتكلم ولا يفي؟» (عد 23: 19). وقوله «لأني أنا الرب لا أتغير» (ملا3: 6). «أما مؤامرة الرب فإلى الأبد تثبت. أفكار قلبه إلى دور فدور» (مز 33: 11). وقوله «في قلب الإنسان أفكار كثيرة، لكن مشورة الرب هي تثبت» (أم 19: 21). وقوله «قد حلف رب الجنود قائلاً: إنه كما قصدتُ يصير، وكما نويتُ يثبت» (إش 14: 24). وقوله «اذكروا الأوَّليات منذ القديم لأني أنا الله وليس آخر. الإله وليس مثلي. مخبر منذ البدء بالأخير ومنذ القديم بما لم يُفعل، قائلاً: رأيي يقوم وأفعل كل مسرتي» (إش 46: 9، 10).

وأما الأدلة العقلية فهي أن الله مستقل بنفسه، فكما أنه غير معلول بل هو علَّة كل المخلوقات، لا يغيره أحد، بل هو يغير الكل. وهو غير محدود في علمه وحكمته وبره وصلاحه وقوته، لأن غير المحدود لا يقبل الزيادة ولا النقصان، فهو لا يقبل التغير. وهو غير محدود زماناً ومكاناً، سرمدي، ولذلك لا يطرأ التغيير على جوهره.

27- كيف نفسر آيات الكتاب المقدس التي تنسب الندامة لله؟

* نفسرها كما نفسر الآيات التي تقول إنه يركب على أجنحة الرياح، وإنه ينزل من السماء ويسير في الأرض. ففي كل هذه التعبيرات يتنازل الله ليكلّم البشر بلغة تناسب عقولهم، فيستخدم الكناية والمجاز.

28- كيف توفق بين عدم تغير الله وأعماله العظيمة التي عملها، مثل خلق العالم وتجسد المسيح؟

* لا يدل خَلْق العالم على تغير في جوهر الله أو في مقاصـده، لأنه قصد منذ الأزل أن يقوم بعمل الخلق، وفي الوقت المعين تمم قصده. وفي خلقه العالم لم يأخذ شيئاً من ذاته بل خلقه من لا شيء، بمجرد أمره. والتجسد أيضاً يوافق قصد الله منذ الأزل. ولا شك أن جوهر الابن الإلهي لم يتغير في الاتحاد بالطبيعة الإنسانية، بل دخل في علاقة جديدة بجنسنا البشري. وكل تغير في المسيح في حياته على الأرض كان خاصاً بناسوته فقط.

وما سبق أن درسناه من عدم محدودية الله، وسرمديته (لا بداية له ولا نهاية) وعدم تغيُّره يصدق على طبيعة الله كما يصدق على مقاصده وصفاته، فهو في ذاته وكل كمالاته بلا حد ولا تغير منذ الأزل وإلى الأبد.

 

الله عالِمٌ بكل شيء

29- ما هو العلم في علاقته بعقل الإنسان؟

* العلم هو حصول العقل على الحقائق. ويستلزم العلم وجود العقل الذي يدرك والحقيقة التي يدركها. وعلم الإنسان إما ضروري أو اكتسابي. فحواسنا تعلمنا بما يعرض عليها من الأجسام الخارجة عنها، ويعرف عقلنا الحقائق العقلية ويميزها، وتعلمنا طبيعتنا الأخلاقية أن نميز الحلال من الحرام، ويقدِّرنا الذوق العقلي على تمييز الجميل من القبيح. ويجيئنا أكثر علمنا من الخارج بالتعليم والاختبار والمقارنة وغيرهما.

30- هل أنكر أحدٌ علم الله، وما هو الرد عليه؟

* توهَّم البعض أن الله بسبب عظيم سموه وارتفاع شأنه لا يعلم أمور العالم بالتفصيل، وأنه لا يمكن للعقل (ولو كان غير محدود) أن يدرك كل تغيرات الكون الواسع. وخُدع بعض الفلاسفة فأنكروا إمكان علم الله، لأن ذلك لا يوافق فلسفتهم.

والرد على ذلك: أنه يجب علينا أن نتبع تعليم الكتاب المقدس في كل ما نعتقده من جهة طبيعة الله، لا أهواءنا وتصوراتنا الفلسفية. ويعلمنا الكتاب أن الله يعلم التفصيلات والكليات «ليست خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا» (عب4: 13). «الظلمة أيضاً لا تظلم لديك، والليل مثل النهار يضيء. كالظلمة هكذا النور» (مز 139: 12 وانظر أيضاً مز 94: 9 و139: 1، 2 و147: 5 وأم 15: 3، 11 وحز 11: 5 وأع 15: 18 ومت 10: 30). وتبيِّن هذه الآيات أن علم الله يشمل كل شيء، وأن العلم أيضاً ذاتي فيه، وهو لا يحتاج إلى نظرٍ واكتساب، وأنه غير متغير أي لا يزيد ولا ينقص، وأنه يعلم كل الأشياء كما هي.

وعلم الله غير المحدود ينتج من أنه صاحب الكمال المطلق، فإن الكامل لا يخفى عنه شيء، ولا يمكن أن يزيد علماً، وإلا لم يكن كاملاً قبل ذلك. ولا يمكن أن ينقص علماً وإلا فلا يكون كاملاً بعد ذلك. وينتج أيضاً علم الله غير المحدود من حضوره في كل مكان، لأن من يملأ السماوات والأرض، ويرى كل الحوادث. ولولا وجود الله في كل مكان وعلمه بكل شيء لكانت صلواتنا وعبادتنا له بلا قيمة، فإننا نصلي لإلهٍ نثق أنه يعلم أحوالنا وحاجتنا ويسمع تضرعاتنا، وأنه يدين العالم أخيراً بالعدل. ولو لم يكن علم الله شاملاً لامتنع ذلك عليه.

31- بماذا يمتاز علم الله عن علم الإنسان؟

* يمتاز من وجوه كثيرة، نذكر منها خمسة:

(1) علمه ذاتي، لا مُكتسب ولا محصَّلٌ بالبحث والتفتيش.

(2) علمه مستقل لا يتوقف على المخلوقات ولا على أعمالها، لأن الله يعلم منذ الأزل كل ما سيحدث.

(3) علمه يشمل كل الأمور في وقت واحد، فهو لم يعلم كل الحوادث والأشياء على التتابع، بل كانت جميعها في ذهنه منذ الأزل، سواء كانت نسبة بعضها إلى بعض نسبة التتابع أو نسبة العلة إلى المعلول.

(4) علمه كلي يحيط بصفات الأشياء وجوهرها، فلا يقتصر على الأشياء الخارجية من الصفات والظواهر كعلم الإنسان.

(5) علمه غير محدود وغير مقيد، فهو يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، ويرى كل شي، معاً، خلافاً للإنسان الذي يعرف الحاضر معرفة غير كاملة، ويعرف الماضي معرفة أقل، ولا يعرف المستقبل مطلقاً.

32- كم عدد أقسام مواضيع علم الله؟

* ثلاثة أقسام:

(1) علم الله ذاته أنه السرمدي، وذو الصفات الكاملة غير المحدودة.

(2) علمه الشامل بكل ما يمكن أن يحدث، سواء حدث أم لم يحدث أم لن يحدث، فعلمه ليس محدوداً بما صار أو سيصير فعلاً، بل يشمل كل ما يمكن أن يصير.

(3) علمه السابق منذ الأزل بكل ما يحدث بالفعل.

33- ما هو رأي اللاهوتيين في علم الله الشامل؟

* عبَّر اللاهوتيون عن هذا القسم بالعلم العقلي المحض، أي أنه قائم في العقل الإلهي قياماً مطلقاً، ناشئاً عن شعور الله الكامل بقوته غير المحدودة.

34- ما هو رأي اللاهوتيين في علم الله السابق؟

* عبر اللاهوتيون عن هذا القسم بالعلم البصري، أي أنه يقوم بأن الله يبصر كل ما حدث أو سيحدث بالفعل بتدبيره أو بسماح منه. وأصل هذا علم الله الكامل بجميع مقاصده. وسمي أيضاً «بديهياً» تمييزاً له عن المكتسب، و«دفعياً» تمييزاً له عن التدريجي، و«واضحاً» تمييزاً له عن المبهم، و«حقيقياً» أي وفق الواقع تمييزاً له عن الوهم والظن، و«أزلياً» تمييزاً له عن الحادث، و«أبدياً» تمييزاً له عن المتناهي.

35- برهن أن علم الله يعمُّ ما يتوقف حدوثه على حدوث أمور أخرى في المستقبل، أو على أسبابٍ خفية عنا.

* من هذا النوع ما يتوقف حدوثه على أسباب مستقلة عن إرادة البشر، ومنه ما يتوقف على فعل الإرادة البشرية. والله يعلم كليهما قبل الحدوث لأن كل الأسباب معلومة عنده بدليل ما يأتي:

(1) أقوال الكتاب المقدس (قارن 1صم 23: 11، 12 وإش 46: 9، 10 وأع 2: 23 و15: 18).

(2) النبوات التي توقف إتمامها على حوادث أخرى وقد تمت بالفعل (مر 14: 30).

(3) كمال الله وعدم محدوديته في صفاته يستلزمان أن معرفته تشمل كل الحوادث وأسبابها.

36- هل يعلم الله أعمال الناس الاختيارية بالعلم السابق؟

* نعم. ويؤكد لنا الكتاب المقدس أن الله يعلمها قبل حدوثها. فإن معرفة الأمور المستقبلة في أعمال الناس الاختيارية تستلزم أن الله يعلمها، لأنه لو لم يعلم ما يفعله ذوو الاختيار لكان علمه محدوداً، يزيد علماً على الدوام. وهذا باطل! ولكانت سياسته للعالم غير ثابتة لأنها تتوقف على أفعال الناس التي لا يعلمها هو. وهذا محال أيضاً! فالله يعلم مقدَّماً أفعال خلائقه الاختيارية.

وقد أنكر البعض علم الله السابق، وهم السوسينيون وقسم من الأرمنيين (انظر ما قيل فيهما فصـل 7 س 10، 11) بحجة أن علم الله السابق يناقض اختيار الإنسان الأخلاقي. ولكن مبدأهم هذا خاطئ لإمكان حدوث أمر سبق القضاء به، مع بقاء فاعله مخيَّراً، بدليل قداسة أفعال المسيح وهو فاعل مخيّر، وقداسة القديسين في السماء مع أنهم فعلةٌ مخيَّرون (مز 139: 2 وإش 41: 21-23 و44: 28 ومت 11: 21 وأع 2: 32).

37- كيف نوفِّق بين علم الله السابق المؤكد لكل ما يحدث واختيار البشر؟

* في هذا صـعوبة، وعند اللاهوتيين آراء مختلفة لإزالتها، فأنكر بعضهم أن الإنسان مخيَّر، وقال غيرهم إن الله استحسن أن يفرغ نفسه من معرفة أعمال خلائقه الاختيارية برضاه. والفريقان مخطئان. والذي نراه في هذه المسألة هو:

(1) لما كان علم الله السابق لكل ما يحدث مؤكداً، وكذلك حرية اختيار الإنسان الكاملة، وجب أن نسلم بهما، حتى لو عجزنا عن التوفيق بينهما.

(2) التأكيد السابق في علم الله من جهة أفعال الفاعل الحر لا ينزع ضرورة حريته، ما لم يكن مضطراً أن يفعل على خلاف إرادته، وذلك للفرق بين الاضطرار والاختيار.

(3) علم الله السابق لأعمال الناس الاختيارية من خواص اللاهوت، وهو إما نتيجة معرفة كل الأسباب أو المحركات التي تنشئها مع اختيار العامل، وإما أنه علم بديهي في الله يفوق اختيار البشر. والخلاصة أنه مهما كان التوضيح صعباً، فلا بد من سبق معرفة الله لأعمال البشر المخيرين، فليس عند الله أمر مُبهم أو خفي وغير محقق لسبب من الأسباب. وعلمه لا يزيد ولا ينقص ولا يتقدم بعضه على بعض. وبهذا يميز سابق العلم، فعلمه واحدٌ أبداً، لأن كل الأشياء معلومة لديه معاً تمام العلم منذ الأزل وإلى الأبد.

38- ما هي العلاقة بين حكمة الله وعلمه؟

* للحكمة علاقة قوية بالعلم، وهي تظهر باختيار الأهداف الصالحة، وإعداد الوسائل المناسبة لبلوغ تلك الأهداف. فالعلم هو إدراك حقائق الأمور وعلاقاتها المتنوعة. والحكمة هي استخدام العلم أحسن استخدام لأغراض حسنة. وفي كل أعمال الله تظهر علامات الأغراض الحسنة، فهي براهين حكمته التي تُظهر صلاح الوسائط التي يستخدمها لإتمام الخير الأعظم لخليقته وإعلان مجده. وحكمة الله سرمدية غير محدودة. وفي تاريخ العالم وأعمال الخليقة (خاصة عمل الفداء والعناية) براهين كثيرة واضحة عليها. ويبرهن الكتاب المقدس حكمة الله بتسميته «الإله الحكيم وحده» (1تي 1: 17). و«الإله الحكيم الوحيد» (آية 25). ويقول المرنم «ما أعظم أعمالك يا رب. كلها بحكمة صنعتَ. ملآنة الأرض من غناك» (مز 104: 24). وقال الرسول بولس عندما تأمل عمل الفداء «يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء» (رو11: 23).

 

الله ذو مشيئة

39- ما المقصود بمشيئة الله؟

* مشيئة الله هي القوة التي بها يختار ما يفعله. ويبيِّن الكتاب المقدس أن قضاء الله ومقاصـده ومشورته وأوامره كلها صادرة عن مشيئته. والمشيئة صفة جوهرية لكل كائن روحي، وشرط ضروري لوجود الشخصية. فإذا أنكرنا مشيئة الله أَهَنّا شأنه، لأننا بذلك نجعله أدنى من خلائقه. وهذه المشيئة حرة، لأن كل أعمال الله من الخلق والعناية وإتمام المواعيد ليست اضطرارية بل اختيارية، ناشئة عن مشيئته.

40- بماذا تتميز مشيئة الله في قضائه عن مشيئته في أوامره؟

* قضاء الله هو ما يشاء أن يعمله وما يقصد أن يجريه في المستقبل، وأوامره هي ما يشاء أن تعمله خلائقه العاقلة. ولا تناقض بين هذين الأمرين، لأن الله لا يقضي أن يفعل شيئاً أو يُلزم خلائقه بفعله وهو قد نهاهم عنه. ولكنه قضى بأن لا يجبرهم أن يمتنعوا عن ارتكاب ما نهاهم عن فعله، وهو لا يمنع الناس عن فعل الخطية مع أنه نهى عنها، لأنه أعطى البشر حرية الإرادة.

وتتميز أيضاً مشيئة الله السرية (التي هي مقاصده المكتومة عنده) عن مشيئته المعلَنة (التي هي أوامره وما أظهره من مقاصده لخلائقه).

41- بأي معنى يجوز التمييز بين مشيئة الله المطلقة ومشيئته المقيَّدة؟

* لا يليق هذا التمييز من جهة قصد الله، لأنه مطلق، بل من جهة حوادث داخلة ضمن دائرة مقاصده، لأن من الحوادث ما هو مقيَّد (أي يتوقَّف حدوثه على حدوث شيء آخر). ولكن قصد الله يشمل كليهما، وهو مطلق لا يتغير. مثلاً: الإنسان يحصد إذا زرع، ويخلُص إذا آمن. فالحصاد يتوقف على الزرع، والخلاص يتوقف على الإيمان. وأما قصد الله فمطلق ويشمل الزرع والإيمان، وما ينشأ عنهما.

وقال البعض إن مقاصد الله مقيدة أيضاً، فإنه يقصد خلاص الإنسان إذا آمن. ولذلك يتوقف قصده على إيمان الشخص، وقد ترك الله إيمان الإنسان بلا قضاء. ولكن هذا القول لا يليق بشأن الله، لأنه يجعل إتمام مقاصده الإلهية متوقفاً على أفعال الناس التي لم يتحقق حدوثها! وسيأتي الكلام على هذا في البحث عن قضاء الله (فصل 16). ويكفي أن يقال إن كلمة «مشيئة» تُستعمل في الكتاب المقدس بمعنيين: (أ) ما يريده الله (ب) ما يقصده. فمتى قيل إن الله يشاء أن كل الناس يخلصون، فليس المعنى أنه قضى بخلاص الجميع، بل أنه يرغب في ذلك. فلأنه شفوق يشاء خلاص الجميع، ولأنه عادل لا يشاء خلاص غير التائب.

42- هل مشيئة الله هي سبب التمييز بين الحلال والحرام، أم أن لهما سبب غير مشيئته؟

* لابد من تمييز أزلي بين الحلال والحرام لا نبنيه على أمر أو نهي من الله، بل على طبيعته. ولما كان الإنسان عاجزاً من ذاته أن يميز بين الحلال والحرام دائماً تمييزاً صحيحاً، أعلن الله له قانوناً بذلك. ويكفينا أن الله يأمرنا بشيء لنكون مكلَّفين بعمله أو ينهانا عن شيء لنجتنبه. وفي كل الأمور تلزمنا مشيئته، وهي التي تقضي لنا بالحلال والحرام، سواء كانت هكذا في ذاتها أو لأن الله يأمرنا بها. وهذه المشيئة هي إظهار ما في الله من الكمال الأخلاقي غير المحدود. فإذاً مشيئة الله الكاملة هي قانون التمييز بين الحلال والحرام للبشر وأصل واجباتهم. (انظر سبب التكليف الأخلاقي فصل 28 س 8، 9 وفصل 44  س 1، 2).

 

الله قادر

43- كيف نعرف القوة، وما هي حدود قوة الإنسان؟

* نعرف القوة من شعورنا بأننا نقدر أن نفعل بعض الأفعال. وتنحصر قوة الإنسان في دائرة ضيقة، فهو يقدر أن يغير مجرى تفكيره ويوجِّهه إلى موضوع خاص، ويقدر أن يحرك بعض أعضاء جسده، وهذا حد قوته الذاتية. ومن هذا المقدار الصغير من القوة صدرت كل العلوم البشرية والاختراعات المتنوعة. غير أن هذه القدرة ليست خاضعة لمجرد مشيئة الإنسان وحدها، لأنها لن تؤلف كتاباً ولن تبني بيتاً، فالإنسان يحتاج إلى استخدام وسائط، مثل المواد الطبيعية.

44- كيف نتوصل من الشعور بقوتنا المحدودة لمعرفة قوة الله غير المحدودة؟

* يكتشف الإنسان أن هناك الكثير الذي يحد قوته، فيتجه عقله إلى قوة الله غير المحدودة، فنحن نقدر على قليل، والله يقدر على كل ما يشاء. ونحن نفتقر لاستعمال وسائط في إتمام غاياتنا إلا في بعض الأمور الجزئية، والله غني عنها. وهو يشاء، فيصير كما يشاء. قال «ليكن نور» فكان النور، وبمجرد مشيئته خلق مواد الكون الأصلية من لا شيء. وطوعاً لمشيئة المسيح سكنت الرياح وصار هدوء عظيم، وبمشيئته وحدها شفى المرضى وفتح أعين العميان وأقام الموتى.

45- ما أهم آيات الكتاب التي تنسب إلى الله القوة غير المحدودة؟

* قوله «أنا الإله القدير» (تك 17: 1). وقال إرميا «إنك صنعت السماوات والأرض بقوتك العظيمة وبذراعك الممدودة. لا يعسر عليك شيء» (إر 32: 17). وقال المسيح «عند الله كل شيء مستطاع» (مت 19: 26). وقال المرنم «إن إلهنا في السماء. كل ما شاء صـنع» (مز 115: 3). «كل ما شاء الرب صنع في السماوات وفي الأرض، في البحار وفي كل اللجج» (مز 135: 6). والله في الكتاب المقدس على الدوام موضوع تسبيحاتنا ومركز ثقتنا لأنه يملك ويفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض.

46- هل يلزم عن عدم محدودية قوة الله أنه يقدر أن يفعل المستحيل؟

* فسر بعض الفلاسفة القوة المطلقة بأنها قوة لا تُحد مطلقاً حتى بالمستحيلات، وأنها غير خاضعة للعقل ولا للشرائع الأخلاقية. وبحسب هذا التعليم يقدر الله أن يعمل المستحيلات والرذائل، حتى أنهم قالوا إنه يقدر أن يعدم حياته.

فنجيب: لاشك أن الله قادر على ما هو مستحيل على قدرة البشر أو الملائكة، ولكن لا يلزم عن ذلك أنه يقدر على عمل ما هو مستحيل له، فلا بد أن نأخذ ذات الله في الاعتبار، فلا يحد القوة الإلهية شيء، ولكنه لا يفعل ما يخالف طبيعته الصالحة، ولا يحد صلاحه غير المحدود شيء، لكنه لا يقدر أن يفعل الحرام. فالذي ينسب لله القدرة على عمل الشر يهينه ولا يرفع شأنه. وقولنا إن قدرة الله غير محدودة لأنه يقدر أن يفعل كل ما يشاء لا يستلزم أنه يشاء عمل الشر، أو أن مشيئته تخالف طبيعته الأخلاقية. ولا يحط من شأن قدرته إذا كانت محدودة بالكمال الأخلاقي.

47- ماذا يقصد بعض اللاهوتيين بالقوة المطلقة؟

* سمى بعض اللاهوتيين القوة التي يظهرها الله في عمله «أعمالاً بدون وسائط مطلقة» تمييزاً لها عن القوة الظاهرة في استعماله الوسائط. ونسبوا إلى القوة المطلقة الخليقة والعجائب والوحي وتجديد القلب، ونسبوا إلى غير المطلقة أفعال العناية الإلهية. وهذا التمييز بالمعنى المذكور صحيح.

48- هل تدبر قوة الله أعمال البشر الاختيارية؟

* يعلمنا الكتاب المقدس أن سلطان الله يَجري على الفاعل المختار، وأنه قادر على سياسة أعمال الإنسان وإرشاده كما يشاء بدون معارضة لاختياره (دا 4: 35 وأم 21: 1 ومز 76: 10 وفي 2: 13 ورو 9: 19 وأف 1: 11). ويتبين ذلك أيضاً من النبوات، لأنه لو لم يكن الله قادراً على إجراء ما يلزم لإتمامها، والإنسان مخيَّر، لما نطق بها (انظر تاريخ فرعون خر 4: 21 و6: 1 وتاريخ يوسف تك 37-41 وتاريخ ملك أشور إش 10: 5-7 وتاريخ كورش إش 45: 1 وتاريخ يهوذا أع 2: 23). وللبشر شيء من تلك القوة، لأنهم يقدرون أن يقنعوا غيرهم ويرشدوهم دون معارضة لاختيارهم. فكم بالحري يقدر الله على ذلك!

 

الله قدوس

49- ما معنى القداسة في الكتاب المقدس، وما معنى قداسة الله؟

* إذا كان الموصوف بالقداسة مكاناً أو زماناً أو إرادة أو شيئاً آخر من المواد كالزيت واللحم والمذبح، كان المقصود بها تخصيص ذلك الموصوف لخدمة الله وإفرازه لتلك الخدمة. وإذا كان الموصوف بالقداسة خلائق عاقلة كالكهنة والأنبياء وشعب الله دلت على الإفراز والتخصيص، ودلَّت أيضاً بالضرورة على الكمال الأخلاقي فيهم، لأنهم عاقلون. وإذا وُصف الله بالقداسة كان المقصود طهارته الأخلاقية الروحية وخلوّه التام من كل ما ينافي القداسة في الفكر والفعل.

وقد تُطلق القداسة على مجده الأخلاقي كما هو ظاهر في جميع صفاته الكاملة (مز 22: 3 و98: 1 وإش 6: 3 ورؤ 4: 8).

وبناءً على ذلك نقول إن المقصود بقداسة الله كمالاته الأخلاقية وطهارته وخلوه التام من كل نقص أخلاقي. «ليس قدوس مثل الرب» (1صم 2:2) أي ليس أحد طاهراً بالتمام وغير محدود في كماله الأخلاقي إلا الله. وكثيراً ما سُمي الله «قدوساً» ووُصف بالقداسة، فقيل «علّوا الرب إلهنا واسجدوا في جبل قدسه، لأن الرب إلهنا قدوس» (مز 99: 9). «من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك، لأنك وحدك قدوس» (رؤ 15: 4). وقداسة الله غير المحدودة هي الصفة التي يُبنى عليها إكرامه بنوع يفوق ما يُبنى ذلك الإكرام على قدرته وعلمه، حتى أن كلمة «قدوس» تُستعمل أحياناً بمعنى صاحب الكرامة. والملائكة الذين يهتفون نهاراً وليلاً قائلين: «قدوس قدوس قدوس رب الجنود» يعبِّرون بذلك عن إحساسات كل خلائق الله العاقلة غير الساقطة، وينظرون إلى كمال طهارته. وهو نار آكلة لأنه قدوس، ولما تأمل النبي في قداسته قال: «ويل لي! إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود» (إش 6: 5).

 

الله عادل

50- ما معنى العدل في الكتاب المقدس؟

* جاء «العدل» في الكتاب المقدس بمعنى عام للدلالة على الكمال الأخلاقي، مرادفاً لكلمة «بر». وجاء أيضاً بمعنى خاص للدلالة على الاستقامة التي تنفي الجور والظلم. والله عادل بالمعنيين، فبالمعنى الأول، يختلف العدل عن القداسة (سؤال 49). وبالثاني يُنسب العدل إلى الله ليصف تصرفه مع خلائقه العاقلة، فهو حاكم عادل، وشرائعه مقدسة عادلة صالحة يجريها بدون محاباة ولا تردد. وهو الديان الذي يجازي كل واحد حسب أعماله، لا يدين البريء، ولا يبرِّر المذنب، ولا يعاقب بأشد مما يجب.

51- إلى كم قسمٍ قَسَم اللاهوتيون عدل الله؟

* قسمه بعضهم إلى قسمين: (1) العدل المطلق وهو كمال الله الأخلاقي غير المحدود، ويرادفه كلمة «بر». و(2) العدل النسبي، وهو عدل الله في معاملته الأخلاقية لخلائقه باعتباره ملكهم وحاكمهم.

وقسمه آخرون إلى قسمين آخرين: (1) العدل الظاهر في سلطانه وإجراء حكمه في الكون باعتباره الملك. و(2) عدله الظاهر في دينونته للخطاة ومجازاته للأبرار باعتباره الديان. فبالأول يسن الشرائع ويتسلط على كل أعمال الملائكة والبشر، وبالثاني يكافئ أو يعاقب كل واحدٍ حسب استحقاقه.

52- اذكر بعض النصـوص الإلهية على عدل الله.

* جاء في الكتاب أنه ملك عادل وديان، ومنه القول «حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر: أن تُميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم. حاشا لك! أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً؟» (تك18: 25). «الله قاضٍ عادل» (مز 7: 11). «يدين المسكونة بالعدل والشعوب بأمانته» (مز 96: 13). «العدل والحق قاعدة كرسيه» (مز 97: 2 وأيضاً مز 71: 15 و19: 9 و145: 17 و119: 144 وعز 9: 15 ورؤ 16: 7). ويثبت الكتاب على الدوام أن الله عادل، مع أننا نرى في الحياة الحاضرة عدم المساواة في معاملته للبشر، فأحياناً ينجح الشرير ويتألم البار. غير أن الله يؤكد لنا أنه يرسي قواعد عدله في كل معاملاته لخلائقه، ويبين للكون أنه بار في كل طرقه، وقدوس في كل أعماله.

53- ما هي المسألة التي يهمنا البحث فيها في شأن عدل الله؟

* هي: هل يعاقب الله المذنب وفقاً للعدل لأن العدل يطلب ذلك ولأن الخطية تستحق العقاب، أو هل يعاقب لغرضٍ آخر؟ وبما أن كل إنسان يعرف أنه أثيم، وبما أن الشعور بالذنب عام ودائم، تكون العلاقة بين عدل الله باعتباره دياناً وقصاص الخاطئ موضوعاً يهم كل لاهوتي.

54- ماذا قيل في عدل الله العقابي وفي الأسباب التي توجب قصاص الخطية؟

* أنكر البيلاجيون والسوسينيون وغيرهم العدل العقابي (انظر فصل 7 س 3-12)، وقالوا إن الله يعاقب الخاطئ ليصلح أمره ويقوده للتوبة، ولأجل خير البشر عموماً، أو ليمنع امتداد الشر بفصل الخطاة عن الأبرياء. فتحوَّل عدل الله عندهم إلى واسطة للإصلاح أو عمل الخير أو منع الشر. والصواب هو أن الله يعاقب الخاطئ لأنه يستحق العقاب الذي يطلبه العدل.

55- ما هي الأدلة على عدل الله العقابي؟

* (1) نصوص الكتاب المقدس على أن الله ديان عادل لا يتردد في حكمه (تك 18: 25 وخر 34: 7 ومز 5:5 و50: 6 و94: 2 و96: 13 وإش 51: 4، 5).

(2) نصوص الكتاب على بغض الله للخطية (تث 4: 24 ومز 5: 4، 6 و7: 11 و45: 7 وأم 11: 20 إر 44: 4 وإش 61: 8).

(3) شهادة الشريعة الأخلاقية التي تعبر عن حكم الله في الخطية، ومطالبه المبنية على صفات الطبيعية. فنتعلم من تلك الشريعة لزوم العقاب (خر 20: 5، 7، 20 ورو 1: 18، 32 و2:2، 12 و3: 19 و5: 12 وغل 3: 10) وأن الطبيعة الإلهية تنظر إلى الخطية بغضب شديد، وأن الله لا يمكن أن يتغاضى عن قصاص الخاطئ. وتؤيد ذلك الشريعة الطقسية التي طالبت بالذبائح الدموية التي نرى منها أن الغفران للخاطئ يتوقف على عقاب خطيته في ذبح الحيوان الذي حمل عقاب الخطايا عنه (عب 9: 22). ونتعلم أيضاً أنه لا بد من تنفيذ شريعة الله (مت 5: 17، 18 ولو 24: 44 ويو 7: 23 و10: 35 ورو 10: 4).

(4) شهادة موت المسيح كفارة عن الخطية (إش 53: 5-11 ورو 3: 24-26 وغل 3: 13، 14 و1بط 3: 18) فهي توفي العدل الإلهي حقه بذبيحة المسيح. فالكفارة ضرورية إكراماً للعدل الإلهي، لا لمجرد تأثيرها في الإنسان كقوله «ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع».

(5) شهادة العقل والضمير البشري عند شعوره بالخطية، لأنه يحكم سريعاً بأنها تستحق العقاب. وقد تشتد إحساسات الأسف والندم في الإنسان حتى تلقيه في اليأس، فبعض المجرمين لا يقدرون أن يحتملوا الشعور بالذنب فيعترفون ويقدمون أنفسهم للعقاب الذي يفرضه القانون. ونعرف من الاختبار أن اعتقادنا بكفارة المسيح لأجلنا والاتكال عليه يمنحان الضمير سلاماً. ومن أحكام العقل البشري أن كل أثيم يستحق العقاب.

ومما يشهد لحكم طبيعة الإنسان بوجوب العدل العقابي الذبائح الدموية الجارية في كل القرون بين جميع الشعوب، والوسائل المتنوعة للتكفير عن الخطية من أعمال النُّسك والتقشف. ونجد في كل اللغات البشرية كلمات تدل على استحقاق الخطية للعقاب، لأنها خطية.

ويشهد العقل البشري أيضاً أن العقاب الذي يكون بدون استحقاق هو من باب الظلم ولو قُصد به الخير العام، لأن قتل الإنسان لأجل الخير العام هو خطية خطيرة لا يُجيزه إلا استحقاق المذنب.

56- ما هو الاعتراض على القول إن الله عادل لذلك يعاقب الخاطئ، مع أن البشر يغفرون لبعضهم ولا يعاقبون، وما هو الجواب عليه؟

* اعتُرض على وجوب عقاب الله للخاطئ بحسب العدل العقابي بالقول إن القضاة البشريين والآباء والمعلمين يقدرون أن يغفروا الخطية ويتركوا القصاص أحياناً إذا أرادوا، ولا يكون في هذا تحقير للعدل. فكيف لا يقدر الله أن يصفح عن الخطية بدون عقاب؟

فنجيب: يختلف حكم الله على الخليقة عن حكم البشر في ثلاثة أمور:

(1) ليس على البشر مسؤولية عظمى في عقاب الخطية، بل عليهم مسؤولية ثانوية. ويطلب البشر عقاب المذنب لخير المجتمع، ولمنع امتداد الشر. وأما الانتقام فهو للرب، كما قيل «لي النقمة أنا أجازي قول الرب» (رو 12: 9 وتث 32: 35، 36).

(2) حكم الله لا يتغير في صفاته ومبادئه خلافاً لحكم البشر، فإذا كفَّ البشر عن إجراء العقاب كان ذلك ممكناً أحياناً بدون تحقير لشأن القاضي أو المعلم.

(3) الله يعرف كل شيء وهو خبير بأسرار القلب، فلا يُخشى من خطإٍ في توقيع عقابه، لأنه دائماً عادل. وأما البشر فلا يعرفون الأفكار الحقيقية ولا انفعالات قلب المذنب، فيضطرون أحياناً أن يخففوا العقاب لئلا يظلموا المخطئ. وجواز صفح البشر أحياناً عن الذنب لا يعني أن الله يفعل ذلك في حكمه العادل. فالعدل الإلهي هو طلب طبيعة الله الطاهرة أن تعاقب الخطية، فالله طاهر إلى غير نهاية، ولا يتغير، فلا يمكن أن يهمل العقاب على الإثم إلا بإهانة العدل. وعدله منزَّه عن أن يكون نتيجة الغضب أو الهوى، ولا يُقصد به سوى إكرام الشريعة، لا التشفّي. وعقابه ليس استبداداً بل هو العمل الحق. فغضب الله ليس نفسانياً بل هو ما يقتضيه عدله، وحكمه على الخاطئ لا يخرج عن دائرة الوجوب، فلا يتغير.

57 - برهِن أن إصلاح الخاطئ ليس هو الغاية الأصلية من قصاصه.

توهَّم البعض أن غاية قصاص الخاطئ هي إصلاحه، بدليل أن الأب يؤدب ابنه لخيره، والآب السماوي يضرب أبناءه بعصا التأديب لبنيانهم. وللرد نقول: هذا تأديب لا عقاب، لأن العقاب هو استيفاء العدل حقه، والتأديب والعقاب متباينان في الغرض. والأدلة على ذلك ما يأتي:

(1) يعاقب الله الأشرار بسبب غضبه، أما تأديبه لشعبه فهو بسبب محبته. فبين الأمرين فرق ظاهر، لأن الله يعاقب الأشرار غير التائبين ليُظهر عدم رضاه بهم، ويستوفي حقوق عدله. وأما التائبون المتبررون ببر المسيح المؤمنون المتجددون فيؤدبهم ليقرِّبهم إليه.

(2) تبيِّن نتيجة العقاب أن الغرض فيه ليس خير المذنب. فالطوفان وانقلاب سدوم وعمورة وخراب أورشليم، وعقاب الملائكة الذين سقطوا لم تكن مفيدة للذين هلكوا.

(3) يعلمنا الكتاب المقدس والاختبار أن آلام العقاب لا تُحدِث بذاتها إصلاحاً إلا إذا رأى المتألم أن الله يرسلها كأبٍ ليظهر محبته فتكون لإصلاحه وتقديسه. ولكن إذا رأى أن الله يرسلها كديان ومنتقم وهي علامة الغضب والانفصال عن الله، زاد قلبه قساوةً وتمرداً. ومن ذلك قول بولس إن الناس ما داموا في الجسد يعاندون الله بشرورهم، وتحت الدينونة، فإنهم يثمرون أثماراً للخطية لا لله حتى يتصالحوا معه ويتأكدوا من محبته. وقول يوحنا في رؤياه إن الأشرار يعضّون ألسنتهم من الوجع ويجدّفون على إله السماء دون أن يتوبوا عن أعمالهم.

(4) شعور البشر هو أعظم برهان على أن غرض العقاب هو إيلام المذنب وضرره لا خيره ونفعه، فقد أجمع الناس على الانتقام من الأشرار، وغاية الانتقام ليست خيراً. نعم إن طباعنا (بسبب قسوتها) لا تنتبه لما تستحقه شرور الأثمة ما دامت قليلة الضرر، ولكن إذا زادت شرورهم استيقظت تلك الطباع من غفلتها وصرخت طالبة عقاب المذنب، وليس ذلك لخيره ولا لنفعه بل للانتقام منه.

 58- ما هو الرد علي الذين قالوا إن الداعي للعقاب هو منع امتداد الشر، فلا يجوز أن يُعاقب المذنب إلا لهذا الغرض؟

* الاعتقاد أن غاية العقاب هو في منع امتداد الشر وإصلاح المذنب يجعل العدل من أعمال الخير والرحمة، كأن الرحمة والعدل صفة واحدة في طبيعة الله، وكأن العدل لا يُجرَى إلا كواسطة لعمل الخير. نعم إن العدل يُنتج خيراً ويؤدي للسعادة، غير أن السعادة العامة والخير العام ليسا الغرض الأصلي في إجراء العدل، بل هما نتيجته. والقول إن غرض العدل هو منع امتداد الشر مبني على مبدإٍ فاسد وهو أن السعادة هي أعظم خير، ولذلك لا يطلب العدل إلا كل ما يؤدي للسعادة، حتى أن القصاص جائز لهذا الغرض فقط. وكذلك لا يجوز إجراء العدل إلا إذا أدى للخير والسعادة. والصواب هو أن القداسة هي أعظم خير لا السعادة، وأن الخطية هي أعظم شر لا الشقاوة. ولذلك يوجب العدل القصاص على الخطية، ويتميَّز عن الرحمة، لأن الغرض في تنفيذه ليس السعادة وفعل الخير، بل إجراء ما تستحقه الخطية من العقاب. ولنا خمسة أدلة على بُطل ذلك:

(1) شعور كل الناس يخالف ذلك. لأن كل إنسان يعلم أن الصلاح والعدل في قلبه ليسا صفة واحدة بل صفتين متميزتين، الأولى منهما تحثنا على فعل الخير، والثانية تنبئنا بوجوب عقاب المذنب. فمتى تأملنا في الذنوب لا نسأل عن نتيجة قصاص مرتكبها ولا نفتكر فيها، بل نحكم طبعاً أن الشرير يستحق العقاب لأنه أثيم. وتعلمنا ضمائرنا دائماً أن عقاب البريء ولو كان لأغراض حسنة أو خيرية هو من باب الظلم، ولا يقبله الضمير الصالح مطلقاً. ومن المعلوم أن غريزيات طبيعتنا الأخلاقية تعلن جلياً طبيعة الله التي تستحق كل الاحترام، فإن كان العدل والصلاح فينا صفتين متميزتين فهما كذلك في الله. وإن كنا اتِّباعاً للطبيعة التي غرسها الله فينا نحكم أن المذنب يستحق العقاب لمجرد ذنبه بدون نظر للنتيجة. فلا بد أن الله يحكم كذلك.

(2) ما وجده كل الناس من أنفسهم في هذا الأمر وجده أيضاً الذين استناروا بالروح القدس. فإن الروح يحرك الناس أحياناً وينبه أفكارهم لخطيتهم وللخطر الذي يهددهم. وحينئذ تظهر المشاعر الأصلية التي غرسها الله في طبيعة الإنسان، فالذي يشعر بعظمة خطيته يسلم نفسه للحكام ليعاقبوه، وكثيراً ما يعذِّب الناس نفوسهم ليُسكِتوا تأنيبات ضمائرهم.

ثم إن شعور الناس بما يطلبه العدل من العقاب ليس مكتسباً من مجرد التربية، بل هو طبيعي في كل إنسان، ويتضح ذلك من لغات البشر فإنها جميعاً تميز بين العدل والصلاح. وهذا التمييز اللغوي بالكلمات دليل على وجود المعاني التي تشير إليها. ولنا أيضاً في تواريخ الشعوب ما يثبت عموم الشعور بما يطلبه العدل، فهي تُظهر أن الناس يطلبون على الدوام عقاب المذنبين، ويلومون الذين يُعفونهم من العقاب. وتؤكد لنا الطقوس الدينية المستعملة في كل الأرض للتكفير عن الخطية وتسكيت ضمائر الناس الحقيقة نفسها، فكل ذبيحة تقدمت عن الخطية، ودخان كل مذبح صعد إلى السماء في جميع القرون في كل أقطار المسكونة يؤكدان ما يشهد به العقل والكتاب المقدس، وهو أن عدل الله هو غير رحمته.

(3) قصاص الخطية وفقاً للعدل هو من مقتضيات قداسة الله، لأنه لما كان الله قدوساً واجب الكمال إلى غير نهاية، فإن طبيعته تبغض الخطية لأنها رديئة في ذاتها. والله يعاقب الخاطئ لهذا السبب بدون نظر إلى نتيجة عقابه.

(4) يُظهِر اقتران الشقاوة بالخطية أن الله يبغض الخطية، كما أن اقتران السعادة بالقداسة يُظهر رضاه بالقداسة. وهذا الترتيب الإلهي يبرهن أن الخطية شريرة في ذاتها، وأن مرتكبها يستحق العقاب، لأن شريعة الله تعلن طبيعته بإعلانها أوامره وسوء عاقبة مخالفيها. فالأوامر تظهر قداسته، وعقاب مخالفيها يظهر عدله، وكلاهما لا يتغيران. ولما كانت أجرة الخطية هي الموت كان الموت استحقاق فاعلها عدلاً، وكان رفعه عن المذنب مضاداً للعدل.

(5) يُثبت تعليم الكفارة في الكتاب المقدس أن الخطية تستلزم العقاب، لأنه يعلمنا أن الخطية لا تُغفر إلا إذا استوفى العدل الإلهي حقه، وأن المسيح قُدم كفارةً لينال العدل حقه «لأنه إن كان بالناموس بر فالمسيح إذاً مات بلا سبب». «لأنه لو أُعطي ناموس قادر أن يحيي لكان بالحقيقة البر بالناموس». فإن قيل: إن هذا التعليم يجعل الله مضطراً، بسبب عدله العقابي، أن يعاقب الخاطئ بحسب عدله، يكون الله غير مقيَّد بشيء خارج عن كمالاته وخواص طبيعته، ويكون استيفاء حقوق عدله متفقاً مع حريته، بل هو مثل قولنا إن الله لا يقدر أن يخطئ لأنه قدوس لغير نهاية.

59 - ما هي بركات تعليم العدل العقابي للمؤمن؟

* الفرح والطمأنينة، لأنه يبرهن أن العدل استوفى حقه بذبيحة المسيح، فلا شيء من الدينونة يقع عليه بعد، فيتأكد خلاصه من الخطية لأن العدل لا يطلب العقاب بعد الكفارة، والله لا يتقاضى أجرة الخطية مرتين. ويصير الغفران والخلاص من باب العدل بناء على كفارة المسيح الكاملة، وبناءً على المواعيد الإلهية.

 

الله صالح

60 – ما هو معنى صلاح الله؟

* هو مَيْل الله لفعل الخير والمحبة والرحمة والنعمة. فهو يفعل الخير مع كل كائن حي، ويبدي المحبة لكل ذي عقلٍ فيميل إليهم ويرضى بهم عند توبتهم. ويقدم الرحمة والنعمة للمتضايقين والمذنبين والخطاة والذين يستحقون الدينونة. وتتضمن الرحمةُ والنعمةُ الشفقةَ واللطفَ وطولَ الأناة والميل للغفران. ومحبة الله القدوس للخطاة هي أعجب صفات الطبيعة الإلهية. وهدف الفداء هو أن يُظهر هذه المحبة «ليُظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح» (أف 2: 7). ويظهر الصلاح الإلهي للإنسان بالمحبة والرحمة. فالمحبة مصدر الفداء، والرحمة تنفيذه. فكل من يطلب نصيباً من محبة الله ورحمته يجب أن يطلبه بواسطة الفداء بالمسيح، فقد عيَّن الله الفداء طريقاً تصل به الحياة الروحية وجميع بركاتها إلى البشر.

61 - ما هو الدليل على صلاح الله؟

* صلاح الله لخير الجميع واضح في كل العالم، فهو لم يوجد شيئاً من الحياة إلا جعل له نصيباً في السعادة، وليس في الكون ما هو لمجرد تسبيب الألم. وما أكثر الوسائل التي دبرها الله ليوصّل خليقته للسعادة القصوى. وقد أظهر الله صلاحه لمن لا يستحقونه لأنه أعدَّ لهم فداءً «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذلك ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به» (يو 3: 16). «في هذا هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (1يو 4: 10).

62 - ما هو تعليم الكتاب المقدس في محبة الله؟

* يعلمنا الكتاب المقدس أن الله محبة، وأنه يحب البشر جميعاً. ويجب أن نميّز بين المحبة كصفة ذاتية تختص بطبيعة الله، والمحبة الظاهرة في أعمال رحمته وصلاحه على البشر. فالأولى مصدر الثانية ومستقلة عنها، فإن الله كان محبةً قبل أن يخلق البشر. لكن تلك المحبة الذاتية الأصلية كانت بين أقانيم الثالوث الأقدس، فكل أقنوم يحب الآخر منذ الأزل. وظلت تلك المحبة الأزلية مقصورة على التمتع بالكمالات الإلهية إلى أن خلق الله الخلائق العاقلة، فأدركت أعمالُ صلاحه وخيرُه ورحمتُه الخلائقَ كلها بحسب احتياجهم. ولما سقط الإنسان ظهرت المحبة في النعمة الفائقة للخطاة في تدبير فدائهم وتقديسهم ومنحهم الخيرات الروحية. ولم تكتفِ بذلك بل طلبت أن تهب للمخلوق نصيباً من الصفات الإلهية عينها. فالمحبة من أخص صفات الطبيعة الإلهية منذ الأزل وإلى الأبد، وقد صارت أيضاً من أخص إعلانات طبيعة الله للبشر في أعمال الخير والرحمة خاصةً عمل الفداء (مز 103: 13، وخر 34: 6 و1يو 4: 7-11 ومز 145: 8، 9  و33: 5 و52: 1 و103: 8 و108: 4 و118: 29 ومز 136 ويع 5: 11 و2بط 3: 15 ورو 5: 8 ويو 3: 16 و1يو 3: 1).

63 - ما هي الأدلة على أن صلاح الله ظاهر في عمل الفداء؟

* لما كان الله برحمته ونعمته ومحبته الفائقة قد أعدَّ الفداء لجنسنا الساقط، كان ذلك برهاناً على      صلاحه غير المحدود، ومما يزيد ذلك إيضاحاً القضايا الآتية:

(1) شقاوة الإنسان هي نتيجة خطيته التي يكرهها الله القدوس.

(2) الشقاوة التي نتخلص منها بالفداء عظيمة، والسعادة التي نحصل عليها به كاملة وسامية وأبدية.

(3) يهتم الله بخلاص الإنسان الساقط لأنه يحبه، ولو تركه للهلاك كما ترك الملائكة الساقطين لكان عادلاً في ذلك.

(4) الإنسان قبل تنويره وإعادته إلى الله عديم الشكر، يواظب على الخطية والعصيان بالرغم من رحمة الله وشفقته.

(5) قدم الله ابنه الحبيب للعار والآلام وتنازل بإرسال الروح القدس ليخلِّص أناساً أشقياء لا يستحقون خيراً.

(6) اتَّفقت حكمة الله مع قدرته في تدبيرٍ عجيب ليوفّق بين حقه ومحبته، وبين عدله ورحمته في خلاص البشر. وهذا يبرهن لنا صلاح الله في عمل الفداء، وهو ما لا نقدر أن ندركه هنا، وسنظل نتعجب منه بدون انقطاع إلى الأبد. والغرض الأعظم من عمل الفداء ليس سعادة المفديين بل قداستهم واقتداؤهم بمن هو قدوس بلا نهاية.

64 - ما هو الرد على الذين قالوا إن طلب الله سعادة خلائقه هو البرهان الأعظم لصلاحه؟

لا نقدر أن نجزم بمقاصد الله وأغراضه بدون إرشاد الوحي. ويقول كتاب الله إن أعظم ما يرغبه الله لخلائقه العاقلة هو قداستهم وسعادتهم. وإعطاء القداسة المقام الأول أقرب لروح الكتاب المقدس لأن القداسة تنشئ أعظم سعادة. فسعادة الخلائق العاقلة هي من أهداف الله في خلقهم وعنايته بهم في زمن الامتحان والتأديب. ولا شك أن صلاح الله يظهر في هذا الدهر في أنه يعطي أولاده كل ما يحتاجونه من السعادة، وبإتمام مقاصده فيهم التي منها:

(1) إظهار مجده ببيان كمال صفاته كأب محب وحاكم بار وديان عادل.

(2) نموّهم في الفضائل الأخلاقية.

(3) بلوغهم أخيراً أعلى درجة من القداسة التامة والسعادة العظمى في حضرته الإلهية.

 65- وضّح خطأ من يقولون إن كل صفات الله مجموعة في الصلاح ومنحصرة فيه.

* أخطأ البعض في قولهم إن صلاح الله هو صفته الوحيدة، وكل ما سواه من الصفات الإلهية يُظهِر صلاحه بطرق متنوعة. فيكون عدل الله في عقاب الخطية من صلاحه. ويسندون رأيهم هذا على الزعم أن العدل العقابي يناقض الصلاح، وأيضاً على آيات الكتاب التي توضّح عظمة محبة الله، ومنها «الله محبة».

وللرد على ذلك نقول: إذا فسّرنا هذه الآية بمعنى أن الله محبة لا غير، يصحّ كذلك أن نفسر آيات أخرى مثل «إلهنا نار آكلة» أن الله عدل لا غير، وكذلك يجوز تفسير القول «إن الله نور» بمعنى أن له المعرفة أو الحكمة لا غير! وهذا خطأ، لأننا يجب أن نفسّر الكتاب باعتبار وحدة التعليم وكماله، لا بفصل عباراته والنظر إليها منفصلة عن بعضها. وقد أوضحنا أن العدل لا يناقض الصلاح، بل بالعكس! فلو كان الله ناقصاً في العدل لما كان كاملاً في الصلاح.

66 - ماذا يُقال في محاولة البشر التوفيق بين وجود الخطية في العالم وصلاح الله وقداسته؟

* اجتهد الناس في كل القرون في التوفيق بين أمرين: (أ) وجود الخطية والمصائب في العالم، و(ب) أن الله إله القداسة والصلاح، وغير محدود في الحكمة والقدرة.

ولما كان البشر محدودي التفكير وقصار النظر كان يجب عليهم أن يتركوا هذا السؤال لله ذاته ليجاوب عنه، لأنهم لا يقدرون أن يطلبوا من الله أن يبرر ما عمله، كما أن الطفل لا يعرف أن يحكم على أعمال والديه. فكان الأَوْلى بنا أن نكتفي بأن ديَّان كل العالم يصنع العدل. ولكن بما أن الكفرة على الدوام يقدمون وجود الشر برهاناً على التناقض في حكم الله، وبما أن هذا الأمر يعثر بعض المؤمنين، وجب أن نتكلم فيها ليسكت الذين يقدمون في أجوبتها أقوالاً خاطئة في حقيقة الخطية وطبيعة الله.

67 - ما هي أشهر المذاهب الخاطئة التي حاولت التوفيق بين وجود الخطية وصلاح الله، وما هو الرد عليها؟

(1) رأي الذين أنكروا وجود شرٍ في العالم، وقالوا إن ما سُمي بذلك يُقسَم إلى مصائب وخطية، وكلتاهما ليست شراً. أما المصائب فلأن الألم شرط ضروري لحفظ صحة الأجساد وإصلاح الأخلاق، فهو خير لا شر. وأما الخطية فلزعمهم أن ما نسميه خطية هو ليس خطية، لكنه عدم بلوغ الكمال، وناشئ عن أننا محدودون، ولا يخلو من ذلك إلا من هو غير محدود. وكما أن قِلّة جمال ونفع بعض الأشجار، ونقص قيمة النبات عن الحيوان والبهائم عن الإنسان ليس خطيةً، هكذا عدم وصول بعض الناس إلى النضوج في العقل والقداسة الذي يصل إليها غيرهم ليس خطية.

وقولهم هذا خاطئ بقسميه! أما خطأ قولهم إن المصائب ليست شراً، فلأن مقدار الألم في العالم يزيد كثيراً على ما يقتضيه الهدف الذي ذكروه. وهو مع ذلك كثير الأنواع، وعام يصيب الأخيار والأشرار والأطفال والبالغين. فكيف يمكن أن يكون مع كل هذا ليس شراً؟ وأما خطأ قولهم إن الخطية هي عدم نضوج، فلأن الأوامر والنواهي تتعلق بالمستطاع للإنسان وعدم النضوج ليس كذلك.

وقال آخرون إن ما يسميه الناس خطية هو شرط ضروري لإظهار الفضيلة، فلا يمكن إظهار القوة إلا بمقارنتها بالضعف، ولا إظهار الراحة إلا بمقارنتها بالتعب، فلا فضيلة إلا في مواجهة شرٍ تقدر على مقاومته وغلبته.

(2) قال البعض إن وجود الخطية شرط ضروري لإظهار أعظم خير للخليقة، فالخطية في ذاتها شر، ولكنها بالنظر إلى نتائجها خير. وحالة العالم بها أفضل من حالته بدونها، فإن أكل الحيوان الكبير الحيوان الصغير (مثلاً) شر في ذاته، لكنه ضروري لحياة النوع الأعظم من الحيوانات، فهو خير. وقطع عضوٍ من الجسد شر في ذاته، ولكنه إذا كان ضرورياً لحفظ الجسد كله فهو خير. والحروب في ذاتها شر عظيم، ولكنها وسيلة لحفظ حرية الناس السياسية والدينية، فهي خير للعالم. وعلى هذا النسق لا تكون الخطية شراً، لأنها الوسيلة الضرورية لإيجاد أعظم خير للبشر. ووجودها لا يشين صلاح الله.

وهذا القول ضعيف وناقص من وجهين: (أ) إنه يحدد قوة الله غير المتناهية، إذ يلزم عنه أن الله لا يقدر أن يصنع خيراً إلا بواسطة الشر. (ب) أنه يجعل السعادة هدف الخليقة، فالخطية (بحسبه) لا تُحسب شراً إذا كانت نتيجتها السعادة. وهذا يناقض الكتاب المقدس الذي يجعل مجد الله هدفاً أعظم لوجود العالم، ويخالف شهادة الكتاب وشعور الناس الباطني أن القداسة خير أعظم من السعادة. ولكن بحسب هذا القول لا يكون للقداسة فضل إلا إن كانت وسيلة للسعادة، ويكون أن كل ما يؤدي للسعادة ليس حراماً!

(3) قال غيرهم إن الخطية شر، لكنهم قالوا إن الله لا يقدر أن يمنع حدوثها في النظام الأخلاقي الحاضر. فكان عندهم رأيان فاسدان وهما: (أ) إن الله لا يقدر أن يحقّق قداسة خلائقه ما لم ينزع منهم الإرادة الحرة، ولا يقدر أن يخلق مكلّفين ذوي إرادة حرة إلا بأن يجعلهم مستقلين عنه. وهذا التعليم يناقض تعليم الكتاب المقدس، فلم يتمسك به إلا قليلون، لأن الكتاب يقول إن قلوب الناس في يد الله وهو يحوّلها كالأنهار، وإنه يجعل شعبه منتدَبين في يوم قوته (يتطوعون في قوة)، وإنه يعمل فيهم ليريدوا ويعملوا من أجل المسرة. وهو يتضمن المواعيد أن الله يعطي التوبة والإيمان، ويجدد القلب، ويحفظ المؤمن من السقوط. ولذلك رفضت الكنيسة هذا الرأي.

68 - ما هو تعليم الكتاب المقدس في التوفيق بين صلاح الله ووجود الخطية؟

* لا يوجد في الكتاب عبارات صريحة توفّق بين صلاح الله ووجود الخطية والشقاء، فإن وجود الخطية سبب كافٍ لوجود الشقاء. ولكننا نجهل سبب دخولها في العالم. والذي تحققناه من صلاح الله وقداسته، ومن أمور أخرى كافٍ ليؤكد لنا وجود سببٍ، لو عرفناه لأزال من أفكار الناس الشكوك في صلاح الله وقداسته. غير أنه مع عدم وجود قول صريح في هذا الموضوع في نص الكتاب، لنا ما يكاد يبلغ درجة التصريح. فمن ذلك:

(1) يصرّح الكتاب أن الله ليس هو أصل الخطية: (أ) يقول الله إنه قدوس «تكونون قديسين لأني قدوس الرب إلهكم» (لا 19: 2 و21: 8 ومز 22: 3 و99: 5 و145: 17 وإش 6: 3 ويو 17: 11 ورؤ 4: 8 و6: 10). (ب) شريعة الله التي حثَّ شعبه على حفظها مقدسة وعادلة وصالحة، تنهى عن كل خطية وشبه خطية. (ج) وعد الله أن يكافئ فاعلي الصلاح بالنعيم الأبدي، وهدد بعقاب فاعلي السيئات. (د) يقول الله إنه لا يُسر بالإثم، وإنه يغضب على الأشرار كل يوم، وإنه يرغب في أن الشرير يرجع إليه ويحيا. (هـ) ما أعدَّه من الوسائط الثمينة المجيدة لتحويل البشر عن الخطية وتخليصهم من عقابها. (و) نسبة أصل شر الإنسان إلى الإنسان نفسه، والقول إن الإنسان مسؤول عنه. «هلاكك يا إسرائيل أنك عليَّ، على عونك» (هو 13: 9). «ارجع يا إسرائيل إلى الرب إلهك لأنك قد تعثّرت بإثمك» (هو 14: 1). «آثامكم عكست هذه، وخطاياكم منعت الخير عنكم» (إر 5: 25).

ويؤيد كل ما تقدم شهادة الضمير وتأنيبه للخاطئ على خطيته، ورَفْضه أن الله هو أصل الخطية، وكذلك اختبار البشر العام أن الصلاح ينشئ راحةً وسلاماً وسعادةً، وأن الخطية تنشئ عكس ذلك. ولو كان الله أصل الخطية ويعاقب مرتكبها، لكان هذا يناقض صلاحه وعدله.

(2) يقول الكتاب إن الإنسان هو أصل شره، ويؤيد ذلك أن الإنسان ذو إرادة حرة، وأنه متى عمل الشر يعلم من نفسه بواسطة حكم ضميره أن ذلك إثم يخالف شريعة الله، وأنه متى عمل الشر لا ينتظر سوى اللوم، ومتى عمل الصالح ينتظر طبعاً مدح الناس.

(3) يعلّمنا الكتاب أن الله استعمل وسائط كثيرة ليمنع الشر كالوحي، وأرسل ابنه ليكفر عن الخطية، وأرسل الروح القدس ليجدد الخطاة ويقدسهم ويعلمهم الحق، وتدخَّل بعنايته في توضيح فساد الخطية وتأديب الخطاة، ووضع خوف العقاب في قلوبهم وخشية الأضرار الجسدية التي تنشأ عن ارتكاب القبائح. وكل ذلك يوضّح أن الله جعل في حكمه الأخلاقي موانع عظيمة لامتداد الشر، ووسائط فعالة لتخليص البشر منه.

(4) يعلمنا الكتاب المقدس أن هدف الله في الخلق والفداء والعناية هو إظهار مجده وبيان صفاته، وإظهار رحمته ونعمته وعدله.

وخلاصة ما تقدم أن وجود الخطية والشقاء هو بسماح من الله لمقاصد سامية نجهلها في هذا الدهر. غير أننا مع قصر عقولنا نقدر أن نستنتج من ذلك ما هو كافٍ لإسناد إيماننا ويقيننا بحقيقة صلاح الله وحكمته وعدله، بالرغم من وجود الخطية في الكون الذي خلقه.

96 – ما هو الرد على الاعتراض أن الله، لأنه حاكم أخلاقي، يقدر أن يمنع الخطية بوسائط إجبارية، كما يمنع الحاكم الأرضي امتداد الشرور بسجن الأشرار؟ ولما لم يفعل ذلك فإنه غير صالح.

* نعم إن الله يقدر على ما ذُكر لو أراد، ولكن ذلك لا يصح إجراؤه على البشر المخيَّرين المسؤولين في حكومة الله الأخلاقية، لأنها إذ ذاك تتحول إلى حكومة إجبارية. وإليك الطرق التي يمكن تصوُّر فرضها لمنع الشر في الكون:

(1) عدم خلق الكون وما فيه من خلائق عاقلة. وللرد نقول: نعم إن هذا يمنع وجود الخطية لكنه يمنع أيضاً إظهار مجد الله وعبادته، ووجود المحبة والسعادة والخير. غير أن العقل السليم لا يسلم بمنع الخلق لمنع وجود الخطية!

(2) حرمان الخلائق العاقلة من القوى الأخلاقية التي تميز بين الخير والشر وحرية الاختيار. وللرد نقول: ولكن خلوَّها من العقل والضمير العواطف والاختيار وجميع القوى الروحية والأخلاقية يجعلها أدنى مما هي الآن بما لا يوصف، بل يجعلها مثل غير العاقلة ومثل الجمادات من أشجار وجبال وأنهار ووحوش وطيور وأسماك!

(3) حفظ الإنسان من التجارب ومن معرفة الشر على الإطلاق، وحفظه (دون اختيارٍ منه) في حالة القداسة التامة. وللرد نقول: ولكن ذلك يخالف النظام الذي استحسنه الله في حكمه الحاضر على الخلائق العاقلة. وتكون القداسة في هذه الحالة سلبية لا إيجابية، لا تسر الله ولا المخلوق، ويكون صاحبها تحت طائلة السقوط عند أول تجربة تهاجمه. ونستنتج من سماح الله بسقوط الملائكة والبشر أنه يطلب القداسة التي تغلب التجارب فتشبه قداسته، ويكون أصحابها أهلاً للمثول لديه، ولخدمته المجيدة. ألم يجعل الله الملائكة في السماء، والإنسان في جنة عدن حين خلقهم في أفضل حال من القداسة التامة وكمال الراحة والسعادة، قادرين على غلبة التجارب والثبات في القداسة؟ ولما كان الله حاكماً أخلاقياً على خلائق عاقلة مُخيَّرة، منح خليقته العاقلة كل ما يعاونها على منع امتداد الشر بينها.

وربما قال المعترض إنه كان يجب على الأقل أن الله يجعل نعمته تؤثر في قلب كل إنسانٍ تأثيراً كافياً يمنعه عن الشر تماماً. فنجيب: إن الله استحسن أن يخلق الإنسان على صورته عاقلاً ومختاراً ومسؤولاً وصاحب ضمير، وأن يصاحبه وأن يعامله معاملة أخلاقية توافق قواه وأحواله (مع أن الله غير مُجبَر على استعمال وسائط النعمة وفعل الروح القدس وتعليم الحق وتأديبات العناية إلى غير نهاية). وقد عيَّن للإنسان ما يكفي من الوسائط الأخلاقية المعلنة في كتابه، وأعماله، والضمير ليحفظه من تسلُّط الخطية عليه، وردعه عن الشر، وخلاصه من عقابه. فإن رفضها الإنسان لا يكون الله مسؤولاً عن هلاكه. وإذا استحسن الله أن يجعل هذه الوسائط فعالة في البعض دون غيرهم، فذلك متروكٌ لمشيئته، ولا يحق لأحد أن يعترض عليه.

وفي كل هذه التصوُّرات يظهر قصور العقل البشري عن إدراك مقاصد الله السامية وأحكامه العالية وصلاحه التام من نحو البشر.

70 - ما هو الرد على أن وجود الشقاء في العالم يدل على أن الله غير صالح، لأنه كان يجب أن يزيل الشقاء، أو على الأقل يخففه؟

* نشأ بعض ما في العالم الآن من الشقاء عن الخطية، وبعضه الآخر من الله، بهدف خير البشر ونجاتهم من شقاء أعظم. فلا يصح إطلاق القول إن الله سبَّب الشقاء وإنه يُسر بآلام خلائقه العاقلة. وهذه واحدةٌ من المسائل الصعبة التي تعذَّر على البشر حلها تماماً، لكن نتعلم من الكتاب المقدس ومن الاختبار أن ما في العالم من الشقاء ليس دليلاً على عدم صلاح الله، كما يتَّضح مما يأتي:

(1) يؤكد ما في العالم من الشقاء الناتج عن الخطايا كراهية الله للخطية وغضبه على الخطاة. فلو عامل الله الأشرار بالرضا، وجعل خطاياهم تنشئ لهم لذةً، وأشبع نفوسهم وأجسادهم من البركات والسرور مكافأة لهم على توغلهم في المعاصي لما تبيّنت لنا قداسته وكراهيته للخطية، ولا رأينا دليلاً على أن الله يقصد أن يدين الأشرار، ولا صدَّق أحدٌ أقواله الكثيرة الصريحة إن للخطية عقاباً.

(2) الشقاء من الوسائط القوية لإصلاح شؤون الناس، فهو يبيّن حقيقة عذاب الآخرة للبشر، فيردعهم عن المعاصي وعن محبة هذا العالم المهلكة، ويوجه قلوبهم ليطلبوا الراحة الأبدية والسعادة الدائمة.

(3) الشقاء من وسائط تقليل الخطية، لأنه لولا معاناة البلايا الناتجة من المعاصي لصار عالمنا جهنم على الأرض من طغيان البشر! ألا ترى أن الخوف من الجوع هو دواء مرض الكسل والإسراف، وأن الخوف من المرض والضعف هو من موانع ارتكاب الفحشاء، وأن تأنيب الضمير يقود الإنسان إلى السلوك في سبل الصلاح، والاحتراس من بغض البشر يهذّب أخلاق الإنسان فيستأصل منه القسوة ويربي فيه اللطف. وكثيراً ما يمنع الاتعاظ من مصير السكير والفاسق والقاتل والسارق توغّل البعض في تلك الخطايا.

(4) الشقاء من الوسائط الفعالة لتنمية الإنسان في الفضائل، لأن الآلام والضيقات تعلّم الصبر والنشاط والتواضع والوداعة والشفقة والمحبة والرقة واللطف. قال يعقوب: «احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة» (يع 1: 2). وكثيراً ما يستعمل الله الآلام ليجهِّز البشر ويؤهّلهم ليقوموا بالأعمال الخيرية العظيمة ويتمموا خدمته بأمانة. ومن أمثلة ذلك موسى ويوسف وداود وبطرس وبولس.

والخلاصة أن الله كثيراً ما يستعمل الشقاء لأجل خير البشر وتهذيبهم، كما قيل «لأن الذي يحبه الرب يؤدبه». ولذلك يجب على المؤمن ألاّ يحسب يوم بلواه يوماً مظلماً، ويجب أن يتَّكل على صلاح الله، ويجتهد أن يستفيد من بلاياه متيقناً أن الله قصد بها خيره، فإن عدم استفادة البعض من بلاياهم نشأ عن سوء قبولهم إياها، ولكن هذا لا يدل على عدم فائدة البلايا.

الله حق

71 - ما هي معاني الحق أو الصدق في الكتاب المقدس؟

* للحق أو الصدق معانٍ كثيرة منها:

(1) تمييز الموجود عن الوهمي: كتسمية الله إله الحق لتمييزه عن آلهة الوثنيين، لأنه هو الإله الحقيقي، والأوثان تصوُّرات وهمية لا وجود لها (2أي 15: 3 وإر 10:10 و1تس 1: 9).

(2) تمييز الكامل عن الناقص وتوضيح كمال الموصوف بها: فقيل إن الله هو الإله الحق، أي الكامل في جميع صفاته الإلهية وغير ناقص في شيء مما يختص باللاهوت (تث 32: 4 ويو 14: 6 و17: 3 و1يو 5: 20).

(3) تمييز الصحيح عن الكاذب، وتوضيح أن الموصوف بها باطنه يطابق ظاهره: فقيل إن الله حق لأنه بالحقيقة كما يُظهر لنا نفسه بواسطة أوامره وبما يقوله في ذاته. وقيل في نثنائيل إنه «إسرائيلي حقاً» لأن صفاته تطابق ما تدل عليه هذه التسمية (عد 23: 19 ويو 3: 33 و14: 17 وتي 1: 2 وعب 6: 18).

(4) تمييز الثابت الدائم عن المتزعزع الزائل والدلالة على الثبات وعدم التغيُّر: فيمكن الاعتماد على ما يقال إنه حق، لأنه لا يزول ولا يتغيَّر ولا يخيّب الأمل (مت 5: 18 و2كو 1: 20 و1يو 1: 9).

72 - ما معنى القول إن الله حق؟

* المقصود به هو المعنيين 3، 4 من إجابة سؤال 71، لأن الله أعلن نفسه لنا بكل صدق، وهو أمين غير متغيِّر، لا ينقض وعده، وكلمته ثابتة دائماً. وهذا هو أساس الدين والعِلم، وعليه نبني ثقتنا بما قاله الكتاب المقدس عن الله وإرادته وأعماله.

أما التوفيق بين حق الله وعدم تحقيق بعض مواعيده أو تهديداته، فهو أن مواعيده وتهديداته إما مُطلَقة أو مقيَّدة بشروط، مثل الطاعة والإيمان والتوبة (يون 3: 4، 10 وإر 18: 7، 8). فلا بد من إجراء المطلقة على أي حال. أما المقيّدة فيتوقف إجراؤها أو عدمه على استيفاء الشروط المنصوص عليها.

73 - كيف يتفق حق الله ودعوته لكل الخطاة للخلاص بالمسيح، مع أنه لم يقصد أن يخلّص الجميع؟

* سبق الكلام في التمييز بين إرادة الله وقضائه، وبناءً على ذلك يصح أن نقول إن الله يريد أن جميع الناس يطيعون أوامره ويعيشون عيشةً طاهرة ثم ينالون الخلاص. غير أنه لم يقصد خلاص الجميع، لأنه يعلن أن ليس الجميع يتجاوبون مع دعوته لهم. ولذلك فإن دعوته لجميع الخطاة ناشئة عن إرادته، وهي لا تناقض صدقه لِما يأتي:

(1) التوبة والإيمان واجبان على كل إنسان.

(2) إرادة الخاطئ وحدها هي التي تمنعه من قبول دعوة الله.

(3) إذا قبل الخاطئ دعوة الله ورجع إليه، فلابد أن يتمم الله وعده له بالخلاص.

(4) لم يعِد الله أن يجعل كل إنسان مؤمناً بالمسيح.

(5) دعوة الله للخطاة هي لجميع الناس، وليست للهالكين المعاندين فقط. وهي فعَّالة في المختارين وحدهم.

(6) مات المسيح كفارةً عن البشر ليفتح باب الخلاص للجميع، والله يدعو جميع الخطاة إلى الخلاص، كما يأمر الجميع بالتوبة والطاعة. ولا يستفيد من الخلاص إلا المؤمنون المختارون.

الله ذو سلطان

74 - ما هو المقصود بسلطان الله؟

* سلطان الله ليس من صفاته الطبيعية كالحكمة والقدرة ونحوهما، بل هو ناشئٌ عن كمال صفاته وسمو شأنه، ولأنه خالق الكون بأسره وحافظه. ويقول الكتاب «إلهنا في السماء كل ما شاء صنع» (مز 115: 3). «حُسِبت جميع سكان الأرض كلا شيء، وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده، أو يقول له: ماذا تفعل؟» (دا 4: 35). «لك يا رب العظمة والجبروت والجلال والبهاء والمجد، لأن لك كل ما في السماء والأرض. لك يا رب المُلك وقد ارتفعت رأساً على الجميع» (1أي 29: 11). «للرب الأرض وملؤها. المسكونة وكل الساكنين فيها» (مز 24: 1). «ها كل النفوس هي لي. نفس الأب كنفس الابن. كلاهما لي» (حز 18: 4). «ويلٌ لمن يخاصم جابله. خزَف بين أخزاف الأرض. هل يقول الطين لجابله ماذا تصنع؟ أو يقول: عملك ليس له يدان؟» (إش 45: 9). «حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته» (أف 1: 11). «لأن منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى الأبد. آمين» (رو 11: 36). ونتعلم من آيات الكتاب التي أوردناها وما يشابهها أن سلطان الله:

(1) يشمل كل خلائقه من أعلاها إلى أدناها.

(2) أنه مطلق غير مقيّد، فهو ينفّذ إرادته في جند السماء وسكان الأرض.

(3) إنه غير متغير.

75 - كيف يُجري الله سلطانه؟

* يجري الله سلطانه:

(1) في وضع القوانين الطبيعية والأخلاقية التي تلتزم بها خلائقه.

(2) في إعطائه لكل رتبة من خلائقه طبيعتها وقُواها ووظيفتها.

(3) في تعيينه لكل واحد مسكنه ونصيبه. فإن الله وضع حدود مساكننا وآجالنا وأحوالنا، فعيَّن ميلاد كل شخص وأجله ومسكنه وأحواله. والأمم كالأشخاص في يده، يقسم لهم ميراثهم وسطوتهم ودوامهم.

(4) في تقسيم خيراته، فيعطي البعض غنى وشرفاً وصحةً، ويترك الآخرين في الفقر والذل، ويرسل معرفة الإنجيل إلى البعض ويترك غيرهم في الجهل، ليس لهم سوى الطبيعة وشهادة الضمير. ويرشد البعض إلى الخلاص بالإيمان، ويترك غيرهم يرفضون إرشاده ويُصرّون على الخطية. وإن قيل: لِمَ فعل ذلك؟ يكون الجواب الوحيد هو قول المسيح: «نعم أيها الآب، لأن هكذا صارت المسرة أمامك» (مت 11: 26).

وسلطان الله هذا ذو حكمة وقداسة ومحبة، وهو عام مُطلق غير مقيَّد بشيء خارج عن ذاته. ولكنه يمارسه على الدوام بموجب صفاته الثابتة. وهو محل ثقة كل شعبه ومتَّكلهم، فيفرحون بأنه مالك وضابط الكل، وأن مجرى الأمور في يده، فلا يحدث شيء على سبيل الاضطرار أو الصدفة في حكمه. وهو متسلط على قوة البشر وعلى خبث الشيطان.

76 - ما هي أُسس سلطان الله المطلق؟

* (1) فضله غير المحدود على كل خلائقه، فهو ذو الكمال التام.

(2) هو موجد كل الخلائق من العدم، وحافظ الكل بوقته لأجل مجد اسمه حسب مسرته (رو 11: 36).

(3) هو مصدر البركات والنعم ومتَّكلنا في كل شيء. فيجب أن نفرح بسلطانه المطلق كما قال المرنم: «الرب قد ملك فلتبتهج الأرض» (مز 97: 1). وهذا السلطان المطلق من مقتضيات ألوهيته، لأن الله قدوس وعادل إلى غير نهاية. فالقداسة الإلهية، لا القوة، هي علة السلطان. وركن التكليف الأخلاقي هو أن الله يطلب دائماً ما يوافق كمالاته الأخلاقية، وليس لأن ذلك التكليف يؤدي إلى النفع أو السعادة، فالنفع أدنى من القداسة. ويجب أن يسأل الفاعل الأخلاقي عما يوافق قداسة الله، ويطيعها بغض النظر عن نفعها أم عدم نفعها لنفسه، فالكتاب يقول «كونوا قديسين لأني قدوس» (1بط 1: 16). «كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل» (مت 5: 48). (انظر سبب التكليف الأخلاقي فصل 28 س 8 و9 وفصل 44 س 1 و2).

77 - هل يقيّد سلطان الله شيء؟

* سلطان الله غير مقيَّد إلا بما يوافق صفاته، فهو غير مقيَّد بشيء خارج عن ذاته. فلا بد من التوافق بين سلطانه وحكمته وقداسته ورحمته، لأنه لا يتسلط إلا بالحكمة والصلاح والعدل. وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده أو يقول له ماذا يفعل (دا 4: 35).

الفصل التالي    الفصل السابق


علم اللاهوت النظامي

كتب أخرى

الرد على الإسلام