الفصل السادس والعشرون

الخطية

1 - هل الخطية حقيقةٌ ظاهرة في تاريخ جنسنا؟

* الخطية حقيقة لا تُنكَر، يقرُّ بها كل من فحص قلبه أو تاريخ البشر، لأن جميعهم، حتى الذين ليس لهم نور الوحي يشعرون بخطاياهم ويعترفون بنقصهم وعجزهم عن القيام بما كُلِّفوا به أخلاقياً، وأن الله غير راضٍ عنهم، وأنهم عديمو الصلاح أمام الشريعة الإلهية. على أن المؤمن الحقيقي الذي فداه المسيح من سلطة الخطية يعرف شدة فعل الخطية في البشر، لأن الشريعة تفعل فيه فعل المؤدِّب لتأتي به إلى المسيح، وذلك يعلِّمه سواد الخطية ولزوم التخلُّص من عبوديتها ما لا يتعلمه الخاطئ الذي لم تؤدبه شريعة الله. فإن النعمة ترشد المؤمن ليعرف حقيقة الخطية، ويوضِّح له اختباره نجاسة قلبه وشدة ميله إلى الشر، ويعرّفه بسطوة إله هذا الدهر الغريبة عليه، فيصير أكثر شعوراً من غيره بأنه يحتاج لمعونة النعمة الإلهية ولدم الكفارة ولتجديد الروح القدس، ويصير أشد تسليماً بلزوم طريقة الفداء التي عيَّنها الله لإنارته وتجديده وتقديسه وخلاصه من لعنة الخطية وتسلطها عليه. وينسب المؤمن كل ذلك لنعمة الله المنقذة فقط، كما قيل «المتجددون هم الذين يعترفون بخطاياهم ويشعرون بقوة الخطية».

ولما كانت الخطية أعظم ما ظهر أمام عيون الفلاسفة واللاهوتيين التزم الفريقان أن يبحثوا في أمرها. وقد ظهر في مؤلفات البشر مذهبان فيها: (أ) المذاهب الفلسفية، وهي ما نشأ من اعتبار الخطية مسألة فلسفية. و(ب) المذاهب اللاهوتية المؤسَّسة على كلمة الله وطبيعتنا الأخلاقية. وسنورد كلاً منهما على حدةٍ.

2 - ما هي المذاهب الهامة التي اشتهرت في البحوث الفلسفية عن الخطية؟

* (1) اشتهر من هذه المذاهب قديماً مذهب «الثنوية» وهو أن الشر كان منذ الأزل في الكون، كقوةٍ عامة، منحصراً في إله الشر الأزلي. وبين مبدأي الخير والشر نزاع مستمر، غير أنهما ممتزجان في العالم وداخلان معاً في طبيعة الإنسان المؤلَّفة (حسب هذا المذهب) من نفسٍ مأخوذة من ملكوت النور تتبع إله الخير، وجسد بحياته الحيوانية مأخوذ من مملكة الظلمة يتبع إله الشر. فالخطية (في هذه الحالة) هي شر جسدي، ودنس الروح الذي نشأ من اتحادها بجسد مادي. وتتم الغلبة على الخطية بوسائط طبيعية تقدر أن تبيد تأثير الجسد في النفس. ومن ذلك نشأ الاعتقاد بفاعلية الامتناع عن الطعام والتقشّف لتطهير الإنسان.

ومن الأدلة على بُطل هذا المذهب ما يأتي: (أ) عدم موافقته للاعتقاد الصحيح في طبيعة الله وصفاته، لأنه يجعل شيئاً غير الله أزلياً ومستقلاً عن إرادته، فلا يبقى الله جوهراً غير محدود، ولا ملكاً مطلقاً، بل يكون محدوداً دائماً بكائن آخر ذي قوة أزلية مثله، لا يقدر الله أن يتسلط عليه. (ب) يُبطل طبيعة الخطية الحقيقية، لأنها بموجبه تكون مادية في صفتها، وتكون من لوازم طبيعة الإنسان المخلوق والمؤلف من مادة وروح. (ج) يُبطل مسؤولية الإنسان، لأن الشر الأخلاقي (بموجبه) ينتج من ذات بنية الإنسان، ومصدره خارج عنه. والشر جوهرٌ ماديٌ ذو قوة عظيمة. وهذا الرأي مردود من كل وجهٍ، ولا علاقة حقيقية له بالتعليم المسيحي.

(2) من هذه المذاهب قولهم إن الخطية نقص فينا، وضعف قدرتنا على عمل المطلوب. فقالوا إن الخير الأعظم هو القدرة غير المتناهية والوجود غير المحدود أو المنزَّه عن القيود، وإن الشر الأعظم هو عكس الله، أي ما هو محدود وناقص لدرجة قصوى. فالإنسان على ذلك خاطئ بسبب ضعفه وصِغر دائرة وجوده. وهذا الرأي ينفي حقيقة الخطية، ويُبطل كل مسؤولية أخلاقية، ويُطلق الحرية لكل الميول الشريرة، ويجعل القوة سبب الفضيلة الوحيد. فيلزم عنه أن الشيطان يستحق الاحترام أكثر من أفاضل البشر، لزيادة قوته على قوتهم لأنه ملاكٌ قويٌّ يُهلك البشر.

(3) ومنها أيضاً أن الخطية تقوم بتسلّط الجسد على الروح، فأصل الخطية ومركزها موجود في طبيعة الإنسان الجسدية. وقال أصحابه إننا نتكوّن من جسد وروح بينهما علاقة قوية، ولكنهما جوهران متميّزان، وإننا بواسطة الجسد متعلّقون بالعالم المادي، وبواسطة النفس بالعالم الروحي والله. وإن لنا حاجات ورغبات وعواطف تتعلق بالعالم المادي، وغرائز وعواطف وقُوى أخرى تتعلق بالعالم الروحي. وإن الروحي أسمى شأناً من المادي ويحق له أن يتسلط عليه دائماً. لكننا نرى بالاختبار أن الأمر بالعكس، فالأدنى يتغلّب على الأسمى، والبشر كافةً تحت تسلط طبيعتهم الحسية على درجات مختلفة إلى حدٍ يحط من شأنهم ويجعلهم يميلون إلى الخطية. ولذلك يفضلون ما يُرى وما هو زمني على ما لا يُرى وما هو أبدي، ويختارون السرور بالأمور المادية على السعادة في الأمور الروحية.

وشاع هذا التعليم على صور متنوعة، منها التعليم المانوي وهو أن المادة شر وأصل كل الشرور. والتعليم التقليدي قريب من هذا، لأنه يقول إن الإنسان خُلق أصلاً بدون بر، بطبيعة جسدية تحارب النفس، لذلك منحه الله موهبة عجيبة زادها على ما كان له أصلاً من المواهب الطبيعية، وهي البر الأصلي. ولكن لما فقد ذلك البر بسقوطه قويت الميول الجسدية في طبيعته. وهذه هي الخطية الأصلية ومصدر كل المعاصي التي يرتكبها الإنسان بالفعل.

ومن الأدلة على خطأ هذا الرأي: (أ) إن الخطية لا تقوم بأفعال الطبيعة الحسية، فإن المخلوقات الذين يحسبهم الكتاب أكثر إثماً من الجميع هم الأرواح الساقطون الذين هم بلا أجساد وبلا ميول جسدية شهوانية. (ب) لا علاقة للخطايا الكبرى بالجسد، فإن الكبرياء والخبث والحسد وحب الرئاسة، وما هو أكبر من ذلك كعدم الإيمان والعداوة لله ولملكوته وغير ذلك مما يقلل شأن الإنسان ويثقل ضميره، هي خطايا روحية لا جسدية، وتوجد في الخلائق التي ليس لها بنية مادية، وأيضاً في النفس بعد انفصالها عن الجسد وموت طبيعته الشهوانية. (ج) يلزم عن هذا المذهب إبطال شعورنا بالخطية، لأن الشر الأخلاقي (بموجبه) هو ضعف أو خضوع قُوى الروح الأضعف لقُوى الجسد الأقوى، فلا يُسأل البشر كثيراً عما يفعلون، أو لا يُسألون مطلقاً. (د) يلزم عنه أن الطهارة تقوم بضعف الجسد، وهذا باطل فإذا صح أن الجسد هو مقرّ الخطية ومصدرها، يلزم أن كل ما يؤدي لإضعافه أو تقليل ميوله يجعل الناس أنقى وأفضل، ويلزم أن للرهبنة والنسك أساساً صحيحاً، لرفع شأن النفس فوق الجسد والعالم وكل صور الشر، مع أن الاختبار العام هو عكس ذلك. فإن الذين قطعوا أنفسهم عن العالم وقهروا الجسد (ولو فعلوا ذلك بإخلاص) لم يتخلّصوا من ميولهم الشريرة، وكثيراً ما ساقهم تقشّفهم إلى الكبرياء والبر الذاتي والاتكال على الطقوس وتقوية الديانة الكاذبة في قلوبهم. والفريسيون أفضل أمثلة لذلك، فمع كل تقشفهم ومواظبتهم على الصوم والصلاة حكم المسيح بأنهم أبعد من العشارين والزناة عن ملكوت الله. (هـ) يلزم عنه أن المتقدمين في السن هم أهل الصلاح، لأن شهوات الجسد ماتت فيهم وفقدوا القدرة على التمتع بشهوات الشباب، ولم يبقَ فيهم ما يمكّن العالم من جذبهم إليه. ولكن الإنسان ما لم يتغير بنعمة الله لا بد أن يتقدم في الشر كلما تقدم في الأيام، وتفقد نفسه الحس بكل ما يرفع شأنه في الأمور الروحية، وتتغرَّب أكثر فأكثر عن الله، وتصير أقل شكراً له على مراحمه وأقل خوفاً من غضبه وأقل تأثراً من كل ما يعلن به مجده ومحبته. فليس الجسد أصل الخطية. (و) هذا الرأي يخالف تعليم الكتاب المقدس. نعم ينسب الكتاب قسماً عظيماً من الخطايا لطبيعة الإنسان الشهوانية، ويوصف الجسد في الكتاب بأنه مقر الخطية، وجاءت كلمة «جسداني» فيه مرادفة لفاسد أو خاطئ. لكن الكتاب لا يعلّم أن الانفعالات الحيوانية أو الحسية هي مقر آثام الإنسان ومصدرها. ولكن كلمة «جسد» و«جسداني» في العبارات المشار إليها تدل على طبيعة الإنسان بدون تجديدها بالروح القدس، ولا تدل على التمييز بين الجسد والنفس بل بين الطبيعة المتجددة والطبيعة غير المتجددة.

(4) ومن الأدلة على خطأ هذا الرأي أن الخطية أنانية، فالإنسان يطلب مصلحته الذاتية ولا ينظر لخير غيره. على أنه لا بد من التمييز بين محبة الإنسان لنفسه محبةً سويَّة تجعله يقبل ذاته، والمحبة الأنانية المريضة التي تهتم بذاتها فقط وتهمل خير الآخرين. والخطية هي طلب سعادتنا الذاتية أكثر من الخير العام، وهي تعظيم الذات وتفضيل خيرها الخاص على كل ما سواها.

وهذا المذهب مبنيٌّ على أن السعادة هي الخير الأعظم، وأن كل ما يؤدي إلى خير النفس هو الخير، وكل ما سواه هو العكس. وبما أن طلب الخير الذاتي والتغافل عن طلب الخير العام وسعادة الغير يقلّل السعادة العامة ويلاشيها، نرى أن الروح الأناني شر وخطية، لأنه يُعمي عيوننا عن أن القداسة وعمل مشيئة الله هما أعظم ما يمنح السعادة لأنفسنا ولغيرنا. ويقلل هذا المذهب من خطورة الخطية ومن شأن الفضل الأخلاقي، لأنه يجعل سعادة الإنسان مقياس الصواب والخطأ، مع أن الإعلانات الإلهية تكلفنا أولاً بطاعة الله وحفظ شريعة القداسة، لا الاجتهاد في ترقية سعادة العالم.

3 - ما هي المذاهب الهامة في تعريف الخطية؟

* (1) المذهب البيلاجي، والأصح تسميته بالمذهب الشبيه بالبيلاجي.

(2) المذهب النصف البيلاجي.

(3) المذهب الأغسطيني وهو ما نعتقد به.

4 - ما هو المذهب البيلاجي في الخطية؟

* هو مذهب بيلاجيوس في حالة الإنسان الأصلية منذ سقوطه، وعلاقة البشر بآدم. (انظر فصل 24 س 6 – 12) ومن مبادئه أن القدرة تحدد المسؤولية، وأن للإنسان قدرة كافية ليعمل كل ما يُكلَّف به، وأن الخطية تقوم بالعمل الشرير، وأن القداسة تنشأ عن الأعمال الصالحة. فالخطية لا تُنسب لأخلاق النفس وميولها الراسخة بل لأعمالها فقط. وشريعة الله لا تحيط بالأخلاق الراسخة، بل باختيار الإرادة وأعمالها فقط. والقاعدة التي يقوم عليها هذا النظام كله هي قولهم «إذا وجب عليَّ قدرت». ويقوم هذا المذهب على مبدأين: (أ) إن القدرة تحدّد المسؤولية. و(ب) إن الخطية لا تختص بأخلاق النفس وصفاتها الباطنة ، بل بالأعمال الشريرة، وأن القداسة لا تختص بخصال النفس، بل بالأعمال الصالحة. وهذا المذهب بدعة لأنه يخالف تعاليم الكتاب، ورفضه علماء المسيحيين. وقد أنشأه في أوائل القرن الخامس بيلاجيوس وسيلستيوس ويوليانوس، وجميعهم من أهل التقوى والمعرفة. وبيلاجيوس بريطاني كان راهباً، غير أنه لم يتقلَّد درجة كهنوتية، وكان سيلستيوس معلماً وفقيهاً، وكان يوليانوس أسقفاً إيطالياً.

5 - ماذا نتج عن المبدأين اللذين أمكن حصر المذهب البيلاجي فيهما؟

* (1) نفي وجود بر أصلي في آدم وفي كل مخلوق بشري.

(2) نفي وجود خطية أصلية في البشر، وعدم إمكانية ولادة البشر في الخطية.

(3) لا خطية إلا ما نشأ من الأعمال الاختيارية. ويعلّم المذهب البيلاجي أن الحرية التامة تستلزم دائماً قدرة الإرادة على اختيار الخير أو الشر، والعمل المخيّر، وذلك في كل البشر.

(4) نفي مبدإ النيابة سواء كان في علاقتنا بآدم أم بالمسيح.

(5) إمكان الخلاص بدون الإنجيل وتجديد الروح القدس، فكل إنسان يقدر أن يخلّص نفسه.

(6) خُلق آدم قابلاً للموت الجسدي، ولم يكن موت الجسد عقاب الخطية.

وسنبحث هذه المسائل بالتفصيل لعظيم أهميتها.

6 - ما هو الدليل على أن المسؤولية غير محدودة بالقدرة؟

* عندما امتُحِن آدم في جنة عدن كانت له القُوى اللازمة والقدرة الكاملة على اختيار الخير أو الشر، وإلا لما صحّ امتحانه، فلا يجوز أن يُكلَّف الإنسان بما فوق قدرته الطبيعية. وقد جرى امتحان البشر بالنيابة في آدم، وقت أن كان آدم في أفضل الأحوال. ولما سقط آدم فقد هو ونسله من بعده القدرة على القيام بمطالب الله الروحية. ولا يزال البشر مسؤولين عما كلَّفهم الخالق به، لأن عجز الخاطئ عن إتمام مطالب الخالق لا يرجع لفقدان قواه الروحية، ولا لوجود موانع خارج ذاته، بل لأنه لا يريد أن يطيع الخالق. فهو لا يقدر لأنه لا يريد، كما أنه لا يقدر أن يريد من ذاته. ويقول المبدأ البيلاجي إن كل إنسان يولد في الدنيا كما كان آدم في الجنة، له قدرة كاملة على الخير والشر، ويقدر أن يجوز امتحاناً. ولكن الرأي البيلاجي خاطئ، لأنه يناقض تعليم الكتاب، وشهادة تاريخ البشر، ومعرفتنا بأنفسنا وبغيرنا.

ويعلّمنا الضمير أنه يجب علينا أن نكون أفضل مما نحن، وأفضل ما يمكن أن نجعل أنفسنا، وذلك بمجرد قدرتنا الذاتية، كأن نحب الله محبة كاملة. غير أننا نعلم أن هذه المحبة فوق قدرتنا. ويعلّمنا الضمير أن نكون أبرياء من كل خطية مطيعين لناموس الله. ولكننا نرى عجزنا عن ذلك، فتتَّجه صلاة جميع القديسين في كل حين وأشواقهم إلى التخلّص من الخطية. ويرغب المتكبر والخبيث في التواضع واللطف، ويرغب قاسي القلب في الشعور بالتوبة، ولكن ليس منهم من يقدر أن يحرر نفسه من ذلك بإرادته. وجميع البشر مقتنعون كل الاقتناع أنهم عبيد الخطية، لا يقدرون أن يفعلوا الخير الذي يريدونه، ولا أن يغيّروا طبيعتهم كما يريدون. فالمذهب البيلاجي يخالف الكتاب والواقع!

والتزم الذين قالوا إن القدرة تحدد المسؤولية أن يقولوا:

(1) لكل إنسان مهما كان خاطئاً قدرة بمجرد اختياره أن يطيع أوامر الله ويتمثل بالمسيح في الفضائل. وهو محال.

(2) أو أن التكليف الأخلاقي ينقص بالنسبة إلى تعاظم شر الإنسان. وهو خطأ لأنه بمثابة القول إن حقوق الله تتناقص كلما زاد الإنسان عصياناً. وهذا محال، لأنه إن صح هذا المبدأ تلاشت الشريعة وزالت أوامرها وأحكامها معها، لأنه كلما توغل الخاطئ في الشر قل شأن الشريعة، فلا تكون حينئذٍ عبارة عن مطالب الله العادلة الثابتة، بل عبارة عن قدرة الإنسان الساقط.

7 – ما هو الدليل على أن القداسة والخطية غير محصورتين في الأعمال؟

* هناك دليلان: (أ) لأخلاق النفس أو خصالها الباطنة المتميّزة عن الأعمال الخارجية صفة أخلاقية. (ب) تتوقف صفة تلك الأخلاق على حقيقتها لا على أصلها. وأوضحنا صدق هاتين الفكرتين (فصل 24 س 6-12) من الكتاب المقدس ومن حكم العقل البشري السليم ومن حكم المشاعر ومن تعليم الكنيسة في كل القرون.

فالنظام الذي يعلّم أن خطية آدم أضرَّت به فقط، وأن البشر يولدون في حالة البراءة التي خلق عليها آدم، ويقدرون أن يعيشوا بدون خطية، وأن ذلك حدث فعلاً، وأننا نقدر أن نصير مقدسين بدون المعونة الإلهية، وأن المسيحية لا لزوم لها ولا هي أفضل من الوثنية أو التعاليم الطبيعية والعقلية، هو نظام خاطئ ويناقض كلمة الله. ولما كان التعليم البيلاجي يناقض المسيحية لم تعتبره الكنيسة أبداً جزءاً من تعليمها.

8 - ما هو المذهب النصف البيلاجي في الخطية؟

* انظر فصل 7 س 1-12.

أُخذ بعض هذا المذهب عن بيلاجيوس وبعضه عن أغسطينوس، وهو يخالف البيلاجي برفض الاعتقاد أن خطية آدم أضرَّت نفسه فقط، ويعلّم أن نتائج تلك الخطية اجتازت إلى كل البشر وأثّرت في النفس والجسد كليهما، فجعلت الجسد تحت حُكم الموت والمرض والألم، وأضعفت النفس حتى صارت تميل إلى الشر، عاجزةً بدون المعونة الإلهية عن عمل الصلاح والخير. غير أن هذا الضعف في النفس والميل إلى الخطية فعلاً لا يُحسبان عندهم من باب الخطية بل من باب الضعف فقط. على أنهم يسلمون أن تلك الحالة تؤدي لارتكاب الخطايا فعلاً. ويخالف المذهب النصف بيلاجي المذهب الأغسطيني في أنه يعلّم:

(1) خطية آدم غير محسوبة على نسله، ولم يُصِب البشر بسبب سقوط آدم غير الضعف الأخلاقي وانحراف الصحة الروحية، وذلك (على قولهم) ليس خطية.

(2) بداية الخلاص هي من الإنسان، فهو يبدأ أن يطلب الله، ثم يأخذ الله في مساعدته.

(3) رجوع النفس إلى الله من الأعمال الصالحة ذات الاستحقاق.

(4) يشارك الإنسان الله في عمل التجديد والتقديس، فنِصف العمل محسوب لله والنِصف الآخر للإنسان. ولا شك في أنهم رفضوا الفساد البيلاجي من جهة كمال طبيعة الإنسان الأخلاقي، ولكنهم رفضوا كذلك التعليم الأغسطيني الصحيح في فساد طبيعة الإنسان التام وموته وعجزه في حالته الأصلية بعد السقوط (أف 2: 1-5) وعلَّموا أن الإنسان روحياً هو كمريض بين الصحة والموت، وله قدرة في ذاته ليتقدم في الأمور الروحية، على أنه يحتاج إلى النعمة للقيام بما كُلِّف به. وقد فُنِّد هذا الرأي سنة 529م في مجمعي أورانج وفالانسا اللذين صدَّقا على تعليم أغسطينوس. ومن القضايا التي حُكم في المجمعين المذكورين: (1) أن نتيجة خطية آدم أفقدته هو ونسله القدرة على عمل الخير الروحي. (2) جعلت البشر خطاة وسبَّبت موتاً روحياً لجميع نسله. (3) النعمة لا تُمنح استجابةً لطلب الخاطئ فقط، لأن الميل لطلبها هو ذاته عمل النعمة وعطية الله. (4) ليس الإيمان والميل إليه من الإرادة البشرية بل من نعمة الله. (5) يجب أن ننسب للروح القدس وحده الإيمان والإرادة والرغبة والسؤال والطلب والقرع على باب الرحمة، لا إلى صلاحٍ في طبيعة الإنسان الساقط. ولذلك حُكم للأغسطينيين بالقضيتين العظيمتين اللتين جرى عليهما الجدال بينهم وبين النصف البيلاجيين وهما: (أ) إن الخطية الأصلية (فساد الطبيعة الصادرة من آدم) موت روحي، وخطية بالحقيقة تُعجز النفس عن كل خير روحي، لا مجرد ضعف قدرتنا على الخير. (ب) إن الذي يبدأ عمل التجديد ليس الإنسان بل روح الله، وأن لا قدرة للخاطئ على أن يرجع إلى الله بل يُرجع أو يُجدَّد بالنعمة الإلهية قبل أن يصير قادراً على أن يفعل شيئاً من الخير الروحي.

9 - ما هو المذهب الأغسطيني في الخطية؟

* هو ما استخلصه ذلك الأب الشهير من اختباره الديني وتفسيره للكتاب المقدس بإرشاد روح الله على ما يأتي:

(1) من شعوره بالخطية، ومعرفته أنه أثيم وفاسد ومسؤول أمام عدل الله. وهذا نتيجة لطبيعته الفاسدة ولأعماله الشريرة. فهو خالٍ من الأخلاق والميول والفضائل المسيحية.

(2) من تمييزه أنه كان دائماً خاطئاً، وأنه شعر بذلك منذ بدأ أن يميّز بين الخير والشر.

(3) من اقتناعه أنه لا يقدر أن يغيّر طبيعته الأخلاقية أو يجعل نفسه طاهراً. على أنه سلَّم أن الخطية اختيارية، وأنه مسؤول عنها لأنها ناتجة من عمل الإنسان الحر، لأن الإنسان لم يزل حراً في اختياره الشر، وإن كان عاجزاً عن اختيار الخير.

(4) من معرفته أن ما يصدُق على نفسه يصدق على غيره أيضاً، فرأى أن البشر كلهم خطاة، وأن وجود الخطية فيهم يتضح من أعمالهم حالما يدركون ما يفعلون، فهم يتعدون على ناموس الله، وهم أموات روحياً وخالون من كل برهان على وجود حياة روحية فيهم، وهم عبيد للخطية بإرادتهم، وعاجزون عن تحرير أنفسهم من عبودية الفساد. ولم يتضح أن لأحدٍ قدرة ذاتية على تجديد نفسه، بل أجمع كل المتجددين على أن نعمة الله وحدها هي التي غيّرتهم.

10 - ما هي القضايا التي استنتجها أغسطينوس من اختباره؟

* استنتج الآتي:

(1) لا يمكن أن يكون خلاص البشر باستحقاقهم بل بمجرد نعمة الله المجانية.

(2) تجديد النفس هو عمل الروح القدس العجيب، ولا يقدر الخاطئ أن يشترك مع الروح في إتمامه.

(3) الخلاص هو من النعمة، ومن رحمة الله النابعة من إرادة الله المطلقة. وكان يمكن أن الله (في عدالته) يترك البشر ليهلكوا في سقوطهم بدون أن يعمل لفدائهم. وأن قدرة البشر الأخلاقية الروحية على عمل ما هو صالح منعدمة، فلا يمكن أن يكون تبريرهم بالأعمال بل بالنعمة. وأن نوال فوائد فداء المسيح لا يتوقف على إرادة الإنسان بل على رضى الله. فالاختيار للحياة الأبدية مبني بالضرورة على رضى الله المطلق لا على رؤية الله السابقة لأعمال الإنسان الصالحة.

(4) ثبات القديسين في النعمة وأمنهم هما من الأمور المؤكدة. فإذا كان الله بمجرد مسرته اختار بعضاً للحياة الأبدية، فلا بد أن ينالوا الخلاص.

فتعاليم أغسطينوس نتائج منطقية لمبدإ أن الإنسان الساقط عاجز عن عمل الخير الروحي، كما أن تعاليم بيلاجيوس هي نتائج منطقية من مبدإ أن القدرة الكاملة شرط ضروري للمسؤولية، وأن للإنسان تلك القدرة بكمالها. وخلاصة ما قيل في هذه المذاهب الثلاثة أنه بحسب تعليم بيلاجيوس: الإنسان كامل القدرة، لا يحتاج إلى شيء. وبحسب التعليم النصف البيلاجي الإنسان ضعيف القدرة ومنحرف المزاج الروحي، ويحتاج لمساعدة النعمة الإلهية ليتمم ما يقدر أن يريده ويشرع فيه من تلقاء نفسه. وبحسب التعليم الأغسطيني الإنسان ميت روحياً بدليل قوله «كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا» (أف 2: 1، 5) ويحتاج لإحياء الروح القدس وفعل النعمة في قلبه، أي إلى ولادة روحية جديدة.

11 - ما هو شرح أغسطينوس لتعاليم الكتاب عن الخطية؟

* (1) خلق الله الإنسان أولاً على صورته في المعرفة والبر والقداسة، مختاراً خالداً، وفوَّضه سلطاناً على الخلائق، فكانت له القدرة على اختيار الخير والشر وإثبات طبيعته الأخلاقية.

(2) تُرك آدم لحرية إرادته فأخطأ إلى الله باختياره حين جرَّبه إبليس فسقط من الحال التي خلق عليها.

(3) فقد آدم نتيجةً لمعصيته الصورة الإلهية، ففسدت طبيعته حتى مات روحياً وصار غير ميّالٍ للخير الروحي وعاجزاً عنه ومضاداً له. وصار أيضاً قابلاً للموت الجسدي وعرضةً لكل بلايا هذه الحياة، وللموت الأبدي.

(4) الاتحاد النيابي بين آدم ونسله هو سبب ما حل عليهم من نفس نتائج المعصية التي حلت عليه. وهم يولدون أبناء الغضب، في حالة الدينونة، خالين من صورة الله وفاسدين أخلاقياً.

(5) هذا الفساد الذاتي الموروث هو من طبيعة الخطية، غير أنه ليس من الخطايا الفعلية.

(6) ضياع البر الأصلي وفساد الطبيعة اللذين نتجا من سقوط آدم هما عقابٌ، لأنهما قصاص خطيته الأولى.

(7) التجديد أو الدعوة الفعَّالة هو عمل الروح القدس العجيب الذي تكون فيه النفس مفعولاً لا فاعلاً، ويتوقف على إرادة الله وحدها، فالخلاص هو من النعمة فقط.

12 - ما هو المذهب الإنجيلي في الخطية؟

* يوافق المذهب الإنجيلي معتقد أغسطينوس. وأجمع اللاهوتيون الإنجيليون على أن خلاصة تعليم الكتاب المقدس في حقيقة الخطية هو أن الخطية هي التعدي على شريعة الله أو عدم طاعتها. وذلك يتضمن:

(1) الخطية هي نوع خاص من الشر.

(2) تظهِر الشريعة الخطية وتبيّنها، فلا يمكن أن تكون خطية إذا لم تكن شريعة.

(3) الشريعة التي تظهِر الخطية وتبيّنها ليست مطالب العقل أو الضمير، بل هي شريعة الله بكمالها.

(4) الخطية هي عصيان المخلوق العاقل في صفاته وأعماله لشريعة الله. فالخطية تشمل الصفات الباطنية والأعمال الاختيارية، وهي تقوم بعدم طاعة الأخلاقيات القلبية وبارتكاب الشرور فعلاً.

(5) إنها تتضمن الجرم والفساد الأخلاقي.

13 - ما المقصود بأن الخطية نوع خاص من الشر؟

* المقصود أنها شر متميّز عن كل ما سواه من الشرور، أي لها صفات خاصة، ولوجودها شروط خاصة، فهي ليست مجرد نقصان في الطبيعة البشرية، ولا هي ما ينشأ عن تحديد قدرتنا، وهي ليست مقصورة على الحواس ولا على الجسد، ولا تقوم بمجرد الميول النفسية. فهي مرض روحي مهلك يؤدي لموت النفس، له خواص وعلاج خاص. وكما يقدر الطبيب أن يميّز مرضاً عن آخر من أعراضه ويعرف سببه وعلاجه، كذلك الله طبيبنا الروحي يعلم كل ما يتعلق بالخطية، وهو يعلّمنا أنها مرض يصيب نفس الإنسان، وهي ذات أعراض ونتائج كالجرم والنجاسة، وأن لها أيضاً علاجاً.

14 - كيف تُظهِر الشريعة الخطية؟

* لما كان الإنسان كائناً أخلاقياً، فهو ملزوم أن يعمل الصلاح، وإلا فلا يكون ملزوماً بشيء يدل على أنه تحت سلطان شريعة. ووردت كلمة شريعة في المواضيع الأخلاقية والدينية بمعنيين: (أ) القوة المتسلطة، كقول بولس إن له ناموساً في أعضائه يحارب ناموس ذهنه. و(ب) ما يُلزِم، كأمر الحاكم. وهذا هو معناها الشائع في العهد الجديد. فالشريعة هي القانون الذي يُلزِم ضمير كل البشر ويعرّفهم بما يجب أن يعملوه وبما يجب أن يمتنعوا عنه. وقد أُعلن بطرق متنوعة: في ضمائرنا، وفي الوصايا العشر، وفي كل الأسفار المقدسة. وجاءت كلمة شريعة مرةً بمعنى يشمل كل هذه الأنواع من الإعلانات، ومرة أخرى لواحدٍ منها، غير أن المعنى العام في الجميع هو أن الشريعة هي ما يُلزِم الضمير.

15 - كيف يتَّضح أن الشريعة التي تظهِر الخطية هي شريعة الله؟

* لإيضاح ذلك نوضّح أولاً الآراء المختلفة في حقيقة الشريعة التي تظهِر الخطية، وثانياً مطالب تلك الشريعة.

16 - ما هي الآراء المختلفة في حقيقة الشريعة التي تظهِر الخطية، وتعيِّن للإنسان كيف يجب أن يكون وما يجب أن يعمل؟

* (1) الرأي الأول يقول إن الشريعة هي عقلنا أو قُوى النفس العليا التي يحق لها أن تحكم. وبموجب ذلك يكون الإنسان مسؤولاً عن نفسه، وعليه أن يُخضع حياته (وخاصةً قواه الدنيا) لعقله وضميره ويتمم كل واجباته. وهذا الرأي مرفوض بما يأتي: (أ) الشريعة شيء خارج عن أنفسنا وفوقها، ومستقل كل الاستقلال عن إرادتنا وعقلنا، فلا نقدر أن نسُنَّها ولا أن نغيرها. وإذا فسد عقلنا وضميرنا فاعتبرنا الباطل حقاً لا يلحق الشريعة شيء من الفساد، بل تبقى غير متغيرة في مطالبها وسلطانها. (ب) بموجب هذا الرأي لا يمكن أن يشعر المذنب بالذنب، فمتى عمل الإنسان خلاف ما يرشده إليه عقله أو ما يحطّ قدر طبيعته، ربما شعر بالخجل أو بالذل، ولكن ليس بأنه مجرم. ولا يقتنع بأنه مسؤول للعدل، أو أن الدينونة ستحلّ به حسب ما جاء في عب 10: 27.

(2) يقول الرأي الثاني إن الشريعة تقوم بما يوافق نظام الكون الأخلاقي، أو بما يُعتبر أنه لائق ومناسب. وهو رأي خاطئ بدليل أن نظام الكون الأخلاقي، وما يوافق لا يمكنهما أن يُلزما الضمير، ولا أن يُجريا قصاصاً للمعصية.

(3) يقول الرأي الثالث إن الشريعة الوحيدة التي تخضع لها الخلائق العاقلة هي ما تقتضيه سعادة الكون، أو على رأي غيرهم ما تطلبه سعادتنا الخاصة. ومن الواضح أن هذه الأقوال تجعل الإنسان تحت التزام مراعاة قانون الموافقة، فتجعله ملزوماً بما يؤدي إلى سعادة نفسه أو غيره. وإذ ذاك لا تتميز الخطية عن الجهالة أو الخطأ أو عدم الموافقة، ولا يمكن أن يكون شعورٌ بالذنب، ولا مسؤوليةٌ للعدل، إلا بما يخالف قوانين الموافقة.

(4) يقول الرأي الرابع إن الشريعة الفائقة التي تُلزمنا جميعاً هي شريعة الله الكاملة المقدسة، فيتضح من طبيعتنا الأخلاقية ومن الإعلانات الإلهية أننا خاضعون لسلطان خالقٍ عاقل أخلاقي هو روح غير محدود أزلي غير متغيّر في كونه وجميع صفاته الكاملة. وقد شعر كل البشر في كل مكان وزمان أنهم خاضعون لكائنٍ أسمى منهم. والذين لم يعرفوا الإله الحقيقي صنعوا لأنفسهم آلهةً وهمية صلّوا إليها لتصرف غضبها عنهم والتمسوا رضاها. أما الكتاب المقدس فبيَّن لنا الإله الحقيقي الواجب الوجود وجميع صفاته السرمدية ونسبتنا إليه، وذلك يحل كل ما يعرض لنا من المشكلات، وهو هدف أشواقنا وأعظم رغباتنا. ونعلم من وجداننا (قُوى نفوسنا الباطنة) أننا ملزومون أن نطيع ذلك الإله وأننا مسؤولون أمامه عن طبيعتنا وسيرتنا.

فللخطية علاقة بالشريعة، وليست الشريعة أحكاماً من عند العقل، ولا هي نظاماً أخلاقياً للكون، ولا لتمنحنا وغيرنا السعادة فنعمل ما يوافقنا. بل هي شريعة الله المقدسة.

17 - ما هي مطالب هذه الشريعة الإلهية؟

* تطلب الشريعة الكمال التام والطاعة الكلية من المخلوق العاقل لله وإرادته، فإن الله يأمرنا أن نحبه من كل القلب ومن كل النفس ومن كل القدرة ومن كل الفكر، وأن نحب قريبنا كأنفسنا، فنتشبَّه به تماماً ونوقِف كل قوانا بكل إخلاص لخدمته، ونُخضِع إرادتنا لإرادته خضوعاً مطلقاً. ولا يمكن أن يكلَّف مخلوق عاقل بأكثر مما تقدم، ولا يقدر ملاك أو قديس ممجد أن يعمل أكثر من ذلك. وهذا ما تطالب به الشريعة كل مخلوق عاقل في كل الأوقات وفي كل أحوال وجوده. فإذا صحّ أن الشريعة تطلب الطاعة الكلية لله وإرادته، ينتج ما يأتي:

(1) يستحيل أن يكون هناك كمال في هذه الحياة، لأنه لما كانت الشريعة تطلب الطاعة الكاملة لله، وتحكم بأن كل نقصٍ في العمل أو القداسة أو المحبة خطية، فإن كل إنسان سيعجز عن الكمال، بل عن الاقتراب لله منذ سقوط آدم.

(2) يستحيل أن يكون هناك استحقاق لأعمال صالحة منسوبة إلى البشر في هذا العالم.

(3) يستحيل أن تكون هناك أعمال تطوعية، لأنه إن عجز الإنسان في هذه الحياة عن حفظ وصايا الله حفظاً كاملاً، فلن يقدر أن يقوم بعملٍ أكثر مما تطالبه به الشريعة.

(4) ليست الخطية محصورة في الأعمال الإرادية.

(5) تدين الشريعة كل عصيانٍ لله وإرادته، كما تدين جميع الخطايا الاختيارية الفعلية، سواء كانت عمداً أم سهواً.

18 - ما المقصود بأن الخطية هي عدم طاعة شريعة الله؟

* عدم الطاعة الذي تقوم به الخطية ليس سلبياً فقط، بل هو إيجابي أيضاً بمخالفة طبيعة الإنسان لطبيعة الله، وعدم الاتحاد الأخلاقي بينهما. وحقيقة الخطية أننا لسنا مثل الله، فكما أن الغباء ضد الذكاء، والجهالة ضد الحكمة، والشر ضد الخير، كذلك الخطية ضد القداسة الإلهية. غير أنها ليست عدم برٍّ فقط، بل هي إثم إيجابي، لأن غياب البر عن الطبيعة الأخلاقية يستلزم حضور الخطية فيها. فعدم التشبُّه بالله هو ابتعاد عنه، أو كما قال الكتاب هو عداوةٌ له. والخطية نوعان: التعدي وهو العصيان وأعمال الظلمة والذنب والمعصية والإثم. وهي أيضاً عدم التشبُّه بالله، وهو النجاسة والفساد والشهوة واهتمام الجسد والجهالة والرياء والفجور.

19 - ما معنى أن الخطية تتضمّن الجُرم والفساد؟

* الجرم هو في علاقة الخطية بعدل الله وما تستحقه من عقابه العادل، والخطية فساد في مقارنتها بقداسة الله. وكل خاطئ يعرف ذلك بالشعور، فضلاً عن معرفته إياه من الكتاب، لأنه يشعر أنه مسؤول أمام عدل الله، ومكروهٌ أمام عينيه المقدستين، ومهان ومحكوم عليه عند نفسه.

ويتضمن الجرم أمرين: أحدهما استحقاق اللوم، والآخر استحقاق العقاب الواجب لذنوبنا، لأن المجرم يستوجب اللوم والقصاص معاً. وبين هذين الأمرين فرق، وإن عُبِّر عنهما أحياناً بكلمة واحدة، لأنه إذا قيل إن جرمنا قد وُضع على المسيح، أو أنه حمل آثامنا، لا يكون المعنى أنه أخذ على نفسه اللوم، بل إنه أخذ استحقاق عقابنا شرعياً (لا حقيقياً)، وهكذا وفى مطالب العدل عنا، أو كما قال بولس «لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطيةً لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه» (2كو 5: 21). ومتى تبرر المؤمن يُرفع عنه جرمه بمعنى استحقاقه العقاب لا استحقاقه اللوم، لأنه يبقى في ذاته غير مستحق لرضى الله ويستوجب اللوم كما كان قبلاً. على أن رحمة الله بالمسيح قد رفعت عنه العقاب. فإذا أُدين إنسانٌ في محكمة بشرية لأجل ذنبٍ جناه، واحتمل ما تحكم به الشريعة من القصاص فإن قصاصه ينتهي، لكن لومه يبقى. وقد وفى المسيح مطالب العدل، ولكن الخاطئ يبقى ملوماً. ويبقى المؤمنون المسوقون من الروح القدس يشهدون بخطئهم في أي قرن كان في كلا العهدين كما ترى في هذه الآيات (1مل 8: 46 وأي 9: 2 و14: 4 و15: 14 ومز 51: 6، 7، 10 وجا 7: 20 وأم 20: 9 و1يو 1: 8-10 ورو 7: 15-25 وغل 5: 17). هذا وكثير من أقوال الكتاب المقدس الصريحة يُثبِّت ذلك (تك 6: 5 و8: 21 مز 14 و143: 2 وجا 9: 3 وإر 17: 9 ومت 15: 19 ويو 3: 6 وغل 3: 22 ورو 3: 10-12). ويعلّمنا الكتاب أن التجديد لابد منه للنجاة عموماً (يو 3: 5-7 و12: 25 ورو 6: 4-6 و7: 14 وغل 5: 24 وأف 2: 1، 5 و4: 18 وكو 2: 13 و2بط 1: 4 وأف 4: 22-24). فكل ما يعلّمنا إياه الكتاب عن لزوم الكفارة للجميع (رو 5: 18 وعب 2: 9 و2تي 1: 10) وعدم إمكان الخلاص إلا بنعمة الله (رو 3: 20 و4: 15 و7: 14 وأف 2: 8) والاحتياج العام لمغفرة الخطايا (لو 24: 47) وعدم إمكان إتيان أحد إلى الآب السماوي إلا بالمسيح (مت 16:16 ويو 1: 12، 13 و3: 14 و14: 6 وأع 4: 12 ورو 3: 9، 19، 20، 23 و5: 12-19 وغل 3: 27) يبرهن أن فساد الخطية قد عمَّ كل البشر.

الفصل التالي    الفصل السابق


علم اللاهوت النظامي

كتب أخرى

الرد على الإسلام