3-قراءة عبد الله بن مسعود.

كان مصحف بن مسعود يتميز بكونه لا يحتوي على الفاتحة و لا على المعوذتين ( السورتين 113و 114). الشكل الذي تتجلى عليه هذه السور له دلالة خاصة لأن الفاتحة ما هي إلا دعاء خالص لله و المعوذتين يُبْتغى من ترتيلهما الحفظ من الشر. حسب حديث ورد في صحيح البخاري (1) حين قيل لأبي بن كعب إن هذه السور ليست من القرآن كما كان يعتقد بن مسعود فأجاب أبي أنه سأل محمد عنهن فأكد له أنهن من الوحي و على هذا الأساس وجب ترتيلهن.

اعتقاد بن مسعود أن هذه السور ليست من القرآن أمر حير العلماء المسلمين القدامى. فهذا الفيلسوف و المؤرخ الفارسي فخر الدين الرازي (1149-1209) الذي ألف تفسيراً للقرآن سماه مفاتيح الغيب يثير الانتباه إلى هذا الموضوع محاولا إنكار الحدث :

"و من المشكل على هذا الأصل ما ذكره الإمام فخر الدين الرازي قال : نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة و المعوذتين من القرآن, و هو في غاية الصعوبة ... وكدا قال القاضي أبو بكر : لم يصح عنه أنها ليست من القرآن و لا حفظ عنه, و إنما حكها و أسقطها من مصحفه إنكارا لكتابتها لا جحدا لكونها قرآنا, لأنه كانت السنة عنده أن لا يكتب في المصحف إلا ما أمر رسول الله بإثباته فيه, و لم يجده كتب ذلك و لا سمعه أمر به" (الإتقان للسيوطي- ص 172)

الإمام النووي يقول كذلك في معرض تعليقه على المهذبات إن الفاتحة و المعوذتين هن جزء من القرآن كما رأى عامة المسلمين و ما قيل عن بن مسعود ليس إلا باطلا (الإتقان للسيوطي- ص 172). العالم المشهور بن حزم أنكر هو كذلك أن يكون بن مسعود قد أسقط هذه السور من مصحفه:

"و قال بن حزم في كتاب القدح المعلى تتميم المحلى : هذا كذب على بن مسعود و موضوع و إنما صح عنه قراءة عاصم عن زر عنه, و فيها المعوذتان و الفاتحة" (الإتقان للسيوطي- ص 173-172)

عكس هؤلاء وافق بن حجر العسقلاني على كون هذه الروايات صحيحة من حيث الإسناد (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) لكن رأى أن السبب الذي جعل بن مسعود يكتبها هو كونه سمع محمد يقول إنه يجب فقط ترتيلها كأدعية للاحتماء من قوى الشر. في محاولته التوفيق بين الروايات المتضاربة حول هذا الموضوع اقترح أن يكون بن مسعود قد اعتبر بالفعل هذه المقاطع كجزء من "الوحي" لكن لم يجرؤ على إدخالها في المصحف المكتوب.

بعد ضياع مصاحف الصحابة يمتنع علينا معرفة ما إذا كانت هذه الآيات موجودة فيها فعلا أم لا. إن كانت قد أسقطت فالسبب هو إما أن بن مسعود لم يكن يعلم أنها جزء من القرآن -كما ظن أبي- و إما أن يكون قد اعتقد فعلا أنها ليست من "كتاب الله" و أن الصحابة افترضوا أنها من القرآن فقط لأنها نزلت على محمد كباقي السور.

في ما عدا هذا نجد أن هناك اختلافات كثيرة في القراءة بين مصحفي زيد و بن مسعود. في كتاب المصاحف وحده نجد ما لا يقل عن تسعة عشرة صفحة متعلقة بهذه الاختلافات. إذا أخذنا بعين الاعتبار جميع المصادر الموجودة نصل إلى ما لا يقل عن 101 نقطة اختلاف في سورة البقرة وحدها. سنحاول عرض بعض الأمثلة على ما كانت عليه هذه الاختلافات :

1- سورة البقرةالآية 275 تبدأ ب "الذين يأكلون الربا لا يقومون". نجد نفس الشيء في مصحف بن مسعود لكن بعد الكلمة الأخيرة يُضيف عبارة "يوم القيامة". هذه القراءة ورد ذكرها في "كتاب فضائل القرآن" لبن عبيد (Noeldecke, Geschichte, 3.63; Jeffery, Materials, p.31) و كانت موجودة كذلك في مصحف طلحة بن المشرف الذي كان مقتبسا من مصحف بن مسعود حيث كان طلحة هو كذلك من أهل الكوفة التي شاع فيها مصحف بن مسعود الذي كان عاملا عليها (Jeffery, 9. 343).

2- الآية 89 من سورة المائدة تحتوي على المقطع "فصيام ثلاثة أيام" في حين يُضيف بن مسعود عبارة "متتابعتين ". هذه القراءة شهد علي وجودها الطبري (7.19.11-Noeldecke, 3.66 ; Jeffery, 40) و ذكرها كذلك أبو عبيدة ووُجدت على الخصوص في مصحف أبي بن كعب (ص. 129) و مصحف بن عباس (ص. 199) و مصحف تلميذ بن مسعود الربيع بن خثيم (ص. 289) .

3- الآية 153 من سورة الأنعام تبدأ ب "و أن هذا سراط ربكم". شهد الطبري مرة أخرى على وجود هذه القراءة (Noeldecke, 3.66; Jeffery, p. 42). أبي بن كعب كان يقرأ نفس القراءة إلا أنه كان يستعمل عبارة "رَبك" مكان "ربكم" . (Jeffery, p. 131) مصحف الأعمش كان يحتوي هو كذلك على هذه القراءة كما ذكر ذلك بن أبي داود في كتاب المصاحف (ص. 91) الذي يضيف قراءة أخرى لبن مسعود حيث أنه كان يقرأ "صراط" بالصاد عوض "سراط" بالسين (ص. 61) .

4- سورة الأحزاب الآية 6 تحتوي على مقولة حول علاقة زوجات محمد بالمؤمنين "و أزواجه أمهاتهم". في مصحف بن مسعود أضيفت عبارة "و هو أب لهم". دُونت هذه القراءة من طرف الطبري كذلك (21.70.8- Noeldecke, 3.71; Jeffery, 156) و كانت أيضا موجودة في مصحف أبي بن كعب (ص. 156)و مصحف بن عباس (ص. 204) و مصحف عكرمة (ص. 273) و مجاهد بن جبر (ص. 282) إلا أنه في هذه الحالات الثلاث ذُكرت مقولة أن محمد هو أبو المؤمنين و ذكرت قبل تلك التي تقول إن أزواجه أمهات لهم. في مصحف الربيع حيث توجد هذه القراءة كذلك نجد أن الموضع هو نفسه الذي وُجدت فيه في مصحفي بن مسعود و أبي بن كعب (ص. 298). كون هذه القراءة ذكرت مرات عديدة في مصاحف عديد من الصحابة قد يكون دليلا على موثوقيتها و على هذا الأساس دليل على ضياعها من مصحف زيد بن ثابت.

هذه الأمثلة الأربعة هي لنصوص تظهر فيها القراءات كإضافات لكلمات أو عبارات لا توجد في مصحف زيد. ما يدعم هذه القراءات هو كونها وُجدت في عدة مصاحف و على الخصوص تلك التي ذُكرت في مصحف أبي بن كعب. لكن عموما غالبية القراءات متعلقة بالاختلافات الشكلية على مستوى الكلمات الفردية. في حالات معينة نجد غياب كلمات بأكملها. (2) مثال على ذلك الآية الأولى من سورة الإخلاص حيث نجد غياب كلمة "قل" في مصحفي أبي بن كعب و عبد الله بن مسعود (الفهرست س26 ز26-Noeldecke 3.77; Jeffery, 113, 180).

في حالات أخرى يأثر شكل الكلمات على المعنى كما يظهر من الآية 127 من سورة آل عمران حيث تُقرأ في مصحفي بن مسعود و أبي "وسابقوا" عوض "وسارعوا" التي توجد في مصحف زيد . (Noeldecke 3.64; Jeffery, 125 34)

هنالك حالات لا تأثر فيها إضافة كلمة على المعنى. مثال ذلك يتجلى في الآية 16 من سورة الأنعام حيث يتفق أبي و بن مسعود على نفس القراءة أي "يُسرف الله" مقابل "يُسرف" (كتاب الكشف للمكي .(Noeldecke,3.66 ; Jeffery, 40, 129)

ما هذه إلا بضعة أمثلة من بين مئات الأمثلة عن القراءات التي تختلف من مصحف بن مسعود لمصحف زيد لكن تعطينا فكرة أولية عن نوع الاختلافات. لكنها تكفي للبرهنة على أن الاختلافات لم تكن على مستوى اللفظ فقط كما يدعي دلك كتاب من أمثال الصديق الذين يتشبثون بمقولة "نص واحد لا اختلاف حوله" بل تعدت ذلك لكي تشمل المعنى أيضا.

كان حجم الاختلافات بين قراءات الصحابة و مصحف زيد غاية الأهمية لدرجة أن ما لا يقل عن 350 صفحة من كتاب جيفري Materials for th History of the Text of the Qur’an خصصت لها. لهذا السبب نفهم لمذا أُريد لهذه المصاحف أن تحرق.

عكس ما يزعم من أن المصحف العثماني كان يتفق عليه جميع المسلمين, نرى أن الفروق كانت شاسعة بين المصاحف التي كانت سائدة في مختلف المناطق. ما قام به عثمان لم يكن إلا محاولة لتوحيد المسلمين حول مصحف معين اختير ليس لموثوقيته لأنه تبين لنا من خلال الأدلة التي قُدمت أن مصحف بن مسعود كان أوثق منه. لقد اختير بدون مبرر بل فقط لأنه جُمع في المدينة تحت إمرة عثمان و لم يكن ينافس أي من المصاحف التي كانت شاسعة آنذاك في مختلف الأقاليم الإسلامية.

قبل أن نسدل الستار عن هذا الفصل سنتطرق لأبي بن كعب الذي كان هو كذلك من بين أعظم من جمعوا القرآن.


(1) {4595 حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش ح وحدثنا عاصم عن زر قال سألت أبي بن كعب قلت يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا فقال أبي سألت رسول الله صلى اللهم عليه وسلم فقال لي قيل لي فقلت قال فنحن نقول كما قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم.}

(2) {فعل "omit" قد يعني أن الأصل هو زيد و أن بن مسعود قد يكون حذف هذه الكلمة لكن ربما العكس هو الصواب.}

رجوع